in ,

وسائل التواصل الاجتماعي ما بين المغتربين وأقرانهم.. كيف تصبح حتى الأخبار المفرحة سبباً للاكتئاب

د. محمد صنديد

من الشائع أن تمر الحالة النفسية للمرء بأطوار متفاوتة ما بين صعود وهبوط خلال اليوم الواحد، تبعاً لأسباب عديدة، ولكن أن يحدث هذا التراوح دون أسباب واضحة أو ظاهرة فهنا تكمن المشكلة.

ولا يمكن تجاهل الضرر الذي يلحقه هذا التفاوت المزاجي بالحالة النفسية، سواء كانت أسبابه معلومة أو مجهولة، وفي الحالات الشديدة منه، قد يشكك الإنسان بتوازنه النفسي أو يعتقد بأنه مصاب بمرض نفسيّ، ما يزيد المرء ضيقاً، ليدخل في حلقة مفرغة. ويتضاعف الخطر إذا كان الشخص يرزح تحت ضغوط أخرى، كأن يكون تحت وطأة فقد عزيزٍ أو وطنٍ أو عائلة. فتتكالب الضغوط من كل صوب

ما علاقة وسائل التواصل الاجتماعي بما تقدم؟

شكلت وسائط التواصل ثورة حقيقية على مستوى التآثر (التأثّر والتأثير) بين الأفراد، حيث اتسعت تلك الدائرة بشكلٍ غير مسبوق. ففي حين أن دائرة اهتمام الفرد ما كان لها قبل بضعة مئات من السنين أن تتجاوز حيّه أو مدينته، وفي أحسن الأحوال بلده، اتسعت دائرة الاهتمام بعد انتشار الوسائط الموجيّة (الراديو والتلفزيون، والساتالايت لاحقا) لتشمل دولاً حول العالم على اتساعه.

لكن ذلك الاهتمام بقي اهتماما منفعلاً لا فاعلاً، حيث أن لا سلطة للفرد على تسونامي أو على بركان يضرب هنا، أو انتهاكات ظالمة أو مجازر ترتكب هناك، إلا من حيث أن تشعر بالأسى لحالهم وترجو لهم الرحمة والمساعدة. وسائط التواصل الاجتماعي جاءت لا لتوسيع تلك الدائرة، فحسب، بل جاءت لتخصيصها وشخصنتها أيضاً. فالعلاقة مع قاطني دول العالم لم تعد عامةً، بل أصبحت خاصة كذلك. لقد أصبح لدينا أخوة وأقارب وأصدقاء يقطنون تلك الدول. وأصبح أولئك يشاركونا الكثير من لحظات حياتهم في سرائها وضرائها، وبات ما يحدث هناك ويمسهم بشكل مباشر، يمسنا كذلك.

لاشك أن في ذلك فائدة اجتماعية جمة، إلا أنه فرض على النفس عبئاً مضافاً تجاوز المحيط الجغرافي الاعتيادي، فكما أصبح الفرح عاماً، كذلك أصبح الحزن والأسى. الأهم، أن تلك الأحاسيس خرجت من الإطار المنفعل إلى الإطار الفاعل بسبب ما يمكن تسميته بتأثير الأقران.

تقسم الأخبار المتداولة على الفيسبوك مثلاً إلى أخبار مبهجة وأخرى محزنة، فمالذي قد يجعل كليهما مدعاة للاكتئاب غير المفسَّر؟ لقد أصبحت مجرد صورة لك على خلفية منظر طبيعي يفيض خضرةً وجمالاً تنشرها على صفحتك، لطمأنة عائلتك وأصدقائك عنك، ولمشاركة دائرة أصدقائك فرحتك في تلك اللحظة، أصبحت تلك الصورة مدعاة فرح لقريبك المحب، لكن لك أن تتخيل ما قد يعتريه من الباطن إن كان يقطن صحراء قاحلة.

لقد أصبحت موضوعاتٌ مسلمٌ بها بالنسبة لقاطني الدول المستقرة اقتصادياً، كالكهرباء والإنترنت السريع ومحلات التسوق المليئة بالبضائع، مصدر بؤس لمن يعيش في بقاع لا تملك تلك “الرفاهية”، في المقابل، أصبح التئام شمل العائلات والأصدقاء على فطور محلي شعبي، وضحكاتهم غير المصطنعة مصدر بؤسٍ لقريبهم المغترب الوحيد المنعزل. وما بين جمال الغابات واخضرارها هنا، وسطوع الشمس ودفئها هناك، تراوحت الأماني وطموحات النفس المشروعة بين هذه وتلك؛ كلٌ يطمح إلى ما يعوزه، توقٌ لسد حاجة نفسية لا يجوز إهمالها، توق النفس الى الراحة مع الطبيعة والرفاهيات من جهة، وتوق نظيرتها على الجانب الآخر من النهر إلى دعم العائلة والأصحاب!

إذا كان هذا ما يمكن أن تفعله بنا أخبار دائرتنا الاجتماعية المبهجة، فلك أن تتخيل ما يمكن أن تفعله بنا أخبارهم الحزينة؟؟ لقد بتنا اليوم أكثر قرباً وحميميةً من ذي قبل، وعلى اتساع جغرافي واسع، لكن ذلك، في المقابل، فرض علينا أعباء عاطفية ما كنا لنشعر بها من قبل.

يجب أن لا نغفل في زحمة تفسيرنا هنا عن عنصر غاية في الأهمية، عنصر الاغتراب القسري. تتضاعف أحاسيس الغبطة، وما يليها من اكتئاب، فيما لو كان الشخص مغترباً قسرياً، لا مخيراً، لأنه ما اختار غربته في الضفة الأولى، ولا اختار من بقي على الضفة الأخرى البقاءَ كذلك، فكلاهما مرغم إما على الاغتراب أو البقاء، فلا يملك هذا الرجوع، ولا يملك ذلك الرحيل. كل ذلك يجعل المرارة أقسى، ونتاجات الإحساس بها أفتك.

د. محمد صنديد* طبيب سوري مقيم في هيسين، ألمانيا

 

اقرأ/ي أيضاً:

سؤال الانتماء والتكيّف: حين يفقد اللاجئ شبكة الحماية الاجتماعية

اللغة الجديدة على وسائل التواصل: عنف، شتائم، إقصاء… والسبب هو كلّ شيء وأي شيء

اكتئاب الشتاء: وحش يهاجمنا في ليل ألمانيا الطويل؟

أسباب تجعل “ميركاتو” الصيف القادم ناري…

“إنجازات” نتنياهو مقابل وعود غانتس… من سيفوز في الإنتخابات الإسرائيلية