in

مجتمع الميم: بين الاضطهاد والنضال الحقوقي المثمر

مجتمع الميم: بين الاضطهاد والنضال الحقوقي المثمر
مجتمع الميم: بين الاضطهاد والنضال الحقوقي المثمر

إلى ذكرى سارة حجازي

رغم استمرار التمييز وعدم الاعتراف ضدّ مثليّي الجنس، إلا أنّ المثلية لم تعد ثقافة ظلّ أو ممارسةً تحتية خجولة ومختبئة، حتى في الدول والمجتمعات العربية والإسلامية الموصوفة بـ”المحافظة”. فعلى رغم تجريمها في تلك البلدان، مجتمعياً وقانونياً، إلا أنّ الظاهرة وجدت طريقها إلى النور والعلنية ومحاولات التنظيم والمطالبة بالحقوق، وإن بتفاوت نسبيّ بين بلد وآخر. الأمر لم يعد مقتصراً على المثلية، وإنما امتد إلى ما اصطلح على تسميته “مجتمع الميم”، الذي يشمل ذوي الميول الجنسية المثلية، المزدوجة، المتحولة، وكذلك المتسائلين عن ميولهم، وسبب التسمية العربية أنّ الكلمات هذه تبدأ جميعها بحرف الميم.

أمّا في الدول الغربية، فإنّ قبول الظاهرة وسنّ التشريعات القانونية الملائمة للاعتراف بحقوق مجتمع الميم في معظمها، لم يأت بسهولة، ولا هو بالطبع “مؤشّر على الانحلال وانعدام الأخلاق في الغرب الكافر!” على ما يردّد كثيرون، لا سيّما المتعصّبون دينياً، من إسلاميين وغيرهم.

هذا التطوّر هو نتيجة منطقية لتطوّرات تدريجية، ساهم في دفعها وإنضاجها خروج الظاهرة إلى العلن، والأهمّ نضال هذه الفئة من البشر بشجاعة وإصرار للحصول على حقوقها. فالدول التي تعترف الآن بحقوق مجتمع الميم وتقرّ الزواج المثليّ، بل ويتعلّم الأطفال في مناهج بعضها أن شريكين من جنس واحد يمكن أن يكوّنا أسرة لا تختلف حقوقها عن بقيّة الأسر، هي الدول نفسها التي كانت حتى الأمس القريب تحارب المثليين بشدّة وتجرّمهم، وتنظر إلى المثلية بوصفها مرضاً نفسياً وظاهرة اجتماعية خطيرة.

في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، أصدر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور سنة 1953 مرسوماً يمنع أيّ مثليّ أو مثليّة من الحصول على الوظائف الحكومية، وتمّ فصل الكثيرين من الجيش والوظائف المدنية، وحتى من بعض الشركات الخاصة، ومارس مكتب التحقيقات الفدرالي FBI التمييز والتحرّش ضدّ المثليين وقام بتعقّبهم ومنع نشاطاتهم العلنية. 

“مسيرة الفخر” في نيويورك.. علامة فارقة للنضال المثلي

لكن في عقد الستينات، وبالتزامن مع حركة الحقوق المدنية للسود، نشأت حركة محبّي المثلية الجنسية وبلغ عدد أعضائها الآلاف، لتنتشر بعدها جمعيات مشابهة وصل عددها إلى خمسين جمعية عام 1969، والذي وقعت فيه حادثة شكّلت علامة فارقة للنضال المثلي.

ففي 27 حزيران من ذلك العام هاجمت الشرطة أحد مقاهي المثليين الرئيسية في نيويورك، فتظاهروا لأيّام احتجاجاً على ذلك، وفي الذكرى السنوية الأولى للحادثة، نظّموا مسيرة حملت اسم “مسيرة الفخر” ستصبح تقليداً سنوياً لمجتمع الميم. وقد وصل عدد المشاركين فيها عام 1987 إلى ستمائة ألف شخص في العاصمة واشنطن، ما اعتبر حينها رقماً قياسياً.

بالتدريج، بدأت الولايات تعترف تباعاً بالعلاقات المثلية وتقرّ بحق الزواج للمثليين والمثليات، فيما بقيت ولايات أخرى كميتشيغن وكنتاكي وأوهايو وتينيسي ترفضه، ليُحسم الأمر بصدور قرار من المحكمة العليا سنة 2015 يشرّع الزواج للمثليين فى جميع ولايات البلاد.

وفي ألمانيا، تعرض المثليّون إلى اضطهاد غير مسبوق إبان الحكم النازيّ، وبلغ الأمر حدّ اعتبارهم مصابين بمرض لا فكاك منه وأن هذا يقتضي “اجتثاثهم من المجتمع الآري النقيّ”، فتعرّضوا للإبادة الجماعية في معسكرات الموت النازية. وحتى بعد زوال الحكم النازي، ظلّت المثلية الجنسية جريمة يعاقب عليها القانون الألمانيّ حتى سبعينات القرن الماضي. أما اليوم فقد منحت ألمانيا للمثليين الحقّ في عقد الزواج، والمساواة القانونية بينه وبين نمط الزواج التقليدي.

الجدل في أعقاب انتحار سارة حجازي كشف عن كمّ هائل من الجهل والتنمّر والكراهية تجاه مجتمع الميم

في المقابل، فإنّ الجدل الذي اشتعل حول الموضوع على صفحات التواصل الاجتماعي الناطقة بالعربية، في أعقاب انتحار الناشطة اليسارية المصرية ساره حجازي، والتي اشتهرت بنضالها في مجال الدفاع عن حقوق المثليين ومجتمع الميم، كشف عن كمّ هائل من  الجهل والتنمّر والكراهية تجاه المثليين و مجتمع الميم عموماً لدى شرائح واسعة في مجتمعاتنا، تراوحت مواقفها بين التهكّم والسخرية المسيئة، إلى الجزم بأنّ هؤلاء أشخاص متهتّكون وفاسدون بلا أخلاق، وصولاً إلى تكفيرهم والتحريض ضدّهم وضدّ من يدعم قضيّتهم. 

المؤسف أنّ قسماً من الفريق الآخر الذي أراد التصدّي لهذه الأصوات والدفاع عن سارة وقضيتها، وقع أحياناً، بقصد أو دون قصد،  في فخّ الإساءة للآخرين عبر السخرية من عقائدهم، في حين أنّ الأجدى بدلاً من ذلك هو استغلال الفرصة لتعميق النقاش حول القضية، والاستفادة من مساحة الحرية التي أتاحها العالم الافتراضي لمناقشة مواضيع مازالت مغيّبة عمداً ويُحظّر نقاشها في معظم وسائل الإعلام التقليدية.

إنّ شجاعة مجتمع الميم في الإعلان عن أنفسهم والدفاع عن وجودهم والنضال من أجل حقوقهم، رغم كلّ الصعوبات والتحدّيات في معركة غير متكافئة، جعل من قضيّتهم حقيقة واقعية. هذا يتطلّب ممن يقفون ضدّها شجاعة الاعتراف بها ومناقشة أصحابها بعقل منفتح، فهم يعيشون في المجتمعات نفسها شاؤوا أم أبوا، ويتشاركون الشروط السياسية والاقتصادية نفسها، فضلاً عن أنهم يتعاملون معهم بحكم مقتضيات سير الحياة والتعامل اليومي بين البشر. وبالتالي، هل يجدون من الحكمة، بعد ذلك كلّه، أن يُختصر الإنسان لديهم، وتختزل قيمته في هويته الجنسية فقط، كائناً ما كان نوع هذه الهوية.

طارق عزيزة. كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا

اقرأ/ي أيضاً:

اضاءات علمية وإكلينيكية على الميول الجنسية المثلية والمزدوجة

سلسلة في الجنس وعن الجنس بدون تابوهات 11: المثلية الجنسية – صدام حضارات أم نهاية التاريخ؟!

إلقاء القبض على أحد أخطر عشرة مطلوبين في العالم

إلقاء القبض على مدير شبكة إباحية للأطفال يعد من أخطر عشرة مطلوبين في العالم

توقف "واتس اب" عن العمل في ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية

توقف “واتس اب” عن العمل في ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية