in ,

صرخة

روز اليوسف

“لا تظني بأن نجاحاتك ستبهر أحدهم يوما ما، فما أنت سوى أداة للمتعة والجنس، سيستخدمك الكثيرون باسم الحب ومن ثم سيملونك وسيلقون بك في أقرب سلة للمهملات”. جلستْ على أقرب كرسي رأته أمامها تتأمل رسالته، لم تكن تلك المرة الأولى التي تسمع فيها منه مثل هذه الكلمات، ولكن هذه المرة كان وقعها عليها مختلفًا. سابقًا كان هذا العنف اللفظي يسقط على مسمعها كالسياط الحارقة فتبتلعه كما ابتلعت كل عنفه الجسدي بصمت قاتل. اليوم كان كل السياق مختلفًا، المكان غير المكان والزمان غير الزمان، وما كان يكنس تحت السجادة بهدوء الموتى قبل الثورة لم يعد اليوم قابلاً للدفن بلا تأبين.

العودة بالذاكرة إلى فترة ما قبل الانعتاق كان عذابها أكبر، وألم الخوض في تفاصيل الذكريات الأليمة كان يشبه إلى حد كبير ذلك الألم الناتج عن دق الأسافين في ساعديها يوم علقت على صليب الطاعة. ساعات من الخوض في غمار الماضي، ووجهه يلفه الذهول، واسم استفهام واحد أخذ يدور في حلقة مفرغة حولها “كيف؟” كيف استطاعت الصمود كل ذلك الوقت؟ كيف لم تنكسر تلك الروح المسالمة؟ كيف نجت؟ أجل، كيف نجت من ذلك القهر اليومي الممنهج؟ حاولت أن تتذكر أين كانت تخبئ عقلها طوال تلك السنوات فلم تفقده في نهاية تلك المقتلة ولكن بلا فائدة.

أغمضت عينيها بعد أن فرّت منهما دمعتان، غاصت في كرسيها منكمشة على نفسها، حاولت التقوقع أكثر، وضعت رأسها بين قدميها علّها توقف ذلك الضجيج الهادر فهي لا ترغب في التذكر أكثر. فسيل الذكريات الجارف لا يكاد يلمح أي شق في ذلك الجدار العازل للشعور الذي بنته حول ذاتها، حتى يعبر منه مدمرًا كل خطوط الحماية، يغرقها بين ثناياه المظلمة فتصبح غير قادرة على التنفس. حاولت أن تقاوم ذلك الشبح القادم من الماضي ليقتل فيها الأمل بالغد، لم تستطع، حاولت أن تغيب عن الوعي ولكن بلا جدوى، لم يبقَ أمامها سوى أن تغوص داخل تلافيف دماغها بأقصى سرعة لتخرج بفكرة توفر عليها كل هذه العذابات وتغلق خلفها بوابة الذكريات.

“أنا في أمان!” فتحت عينيها فجأة ورددت بصوت مسموع عدة مرات. انتفضت بسرعة لتغير مكانها وجلستها، انتصبت كالنمر عند ترقب الفريسة بعد أن تذكرت أنها لم تعد هناك، وأخذت تبحث في  جهازها الخلوي عن رابط للدستور الألماني باللغة العربية بعد أن أرسلت تلك الرسالة العفنة إلى سلة المحذوفات. أنقذتها تلك الفكرة فبدأت تقرأ عما سبق وسمعت عنه كثيرًا من قوانين هذه البلد التي أنصفتها وأنصفت إنسانيتها وسلمتها بالقانون كامل حقوقها وسلطاتها على جسدها وفكرها، قوانين احترمت كل لاءاتها، فلا مكان اليوم لـ “يتمنعن وهن راغبات” ولا لـ “ناقصات عقل و دين” ولا لـ “اضربوهن” ولا لـ “سأتركك لا معلقة ولا مطلقة” ولا للكثير من الترهات المعلبة والجاهزة لقهر المرأة هناك. اليوم هي محمية بالقانون وبالمجتمع الذي تقبل هذه القوانين فأصبحت هي ثقافته العامة ومبدأه في التعامل دون الحاجة لمن يفرضه بالقوة.

فكرت، كم كان جميلاً لو أنها شعرت بمثل هذا الأمان هناك في وطنها الأم أو حتى في دول الجوار. لم يكن الاغتراب حلمها يوما وهي التي قاومت فكرة اللجوء إلى أن فرض عليها فرضا في النهاية. غبار معاركها في بلادها لم يهدأ عجاجه إلى اليوم. كم حلمت بانتصار يشفي غليلها وغليل الكثيرات ممن عشن ذات مأساتها هناك.

وعدت نفسها في تلك اللحظة بألّا تنسى أبدًا بعد اليوم أنها كانت تلك المرأة التي أعلنت ثورتها ثورتين أو أكثر يوم صاح الشعب “حريـــــــــــة”، فهي التي لم تكن لتطالب بحقوقها وكرامتها من حكومة الأسد وتترك كيانها مستباحًا إلى أبعد الحدود في بيتها ومجتمعها. لن تنسى يوم صرخت أحشاؤها ذات صباح على ناصية الطريق بأربعة حروف لا غير، صرختها تلك لم تكن في وجه النظام المستبد فحسب، بل كانت صرخة في وجه كل من اضطهدها، صرخة في وجه مجتمع  مارس عليها كل أنواع التمييز والظلم، وفي وجه زوج كان قد اجتث روحها وكرامتها من الجذور ولم يدع أمامها خيارًا للخروج من دوامة قهره سوى الموت، لكنها اختارت الحياة رغما عنه وعنهم جميعا. هي التي استمرت بالصراخ لسنوات بلا توقف، صدى صوت صرخاتها مازال يصم أذنيها إلى اليوم، تساءلت، أيعقل بأن لم يسمعها أحد؟! لم يعد يهم الآن، فربما ما كانت تظنه صراخًا في وطنها لم يكن أكثر من أنين دجاجة جُزت عنقها على عجل بالنسبة لهم.

اليوم ليس كالأمس، وبضع كلمات لم تعد قادرة على كسر عنفوانها وألقها وعشقها للحياة والنجاح، هي اليوم على يقين بأنها أصبحت أجمل وحلمها صار أكبر وروحها أصلب وصوتها أعلى، ومن لم يكن يسمعها سابقا سيسمعها اليوم مرغما. قررت أن ترد على رسالته هذه المرة، فجهزت فنجان قهوتها على نار هادئة وعادت لتمسك قلمها، ابتسمت طويلاً، وكتبت: “زنزانتك الفارغة وكلماتك اللاذعة شهود على حريتي، فلا تنسَ بعد اليوم أني (إنسان) في دولة قانون، فإياك ثم إياك”.

*كاتبة سورية

المرأة الأوروبية بين الصورة النمطية والواقع

مواطنة ألمانية: شكرًا لقدومكم إلى ألمانيا!