in

جدران هذا القفص

الحديث عن المهاجرين القدماء
العمل الفني: محمد خياطة
محمد ملاك، إعلامي سوري مقيم في ألمانيا

تسير السيدة الخمسينية عائدة في طريقها من كورس اللغة الذي يبعد عشرين دقيقة مشياً عن الشقة الصغيرة التي تتشاركها مع ابنها وكنّتها وحفيدها. تمرّ بين أشجار الشّارع العملاقة بأوراقها الخضراء وعصافيرها الآمنة، نبات المديدة يعرش على جدار ممتد بطول الطريق كمدىً أخضر. بدل الارتياح يشعرها ذلك بشي من غصّة “سبحان الله، بس.. خضار بلادنا أحلى”.

تصل الشقة تفتح مكالمة طويلة مع أختها كأنهما تجلسان متقابلتين، ابنة أختها باتت في الثامنة عشرة والأم قلقة من تأخر العريس خاصة في ظروف الحرب هذه وقلة الشباب، بحسرة تردّ الأخت البرلينية “الله يبعت لها نصيبها ويهنيها، هنياً للدار التي ستحظى بها، والله لو أني قريبة منكم ما كنت فرطّت بها، تبقى ابنة الدار أحن على أهلها، ليس كالتي عندي!”.مشيرةً لـ “كنّتها” الغائبة في الكورس، ومجيبة على سؤال أختها الحاضرة في الذكرى الدمشقية الوادعة.

الكنّة العشرينية تفتح معركةً يومية مرتدية طفلها الرضيع على صدرها، لتضعه في الحضانة وتذهب إلى كورس اللغة الألمانية الأول، الذي أجلته عامين ونصف بسبب الحمل والولادة، تبدأ معركةً ثانية حال عودتها إلى الشقة، حيث تطل من الغرفة حماتها الخمسينية، متفقدةً حفيدها فيما لو كان بارد اليدين، محمر العينين من البكاء على أم غائبة أو رضعة لم يحصل عليها في موعدها. 

“لا أعرف بم ستفيدنا اللغة، لو كان لي عذرك ما خرجت من غرفتي، وماذا ستصبحين بعد هذا، مترجمة! لن تفلحي إلاّ في نسيان العربية التي وأنت ما زلت تذكرينها، لا نستطيع إفهامك واجباتك تجاه زوجك وابنك!” ثم تطعنها بجملتها الأخيرة “لا أدري ما أقول: والله نعرف أهلك محترمين، أصحاب دين، ولا يقبلون الحال المائل!”.

ملًت الكنة من تكرار الردود، هو قصفٌ يومي تتعرض له، ورغم أن حماتها منبع الفتنة والانتقادات، فإنها تستطيع تجنبها بعدم الرد، لكنّ زوجها الذي يحاصرها ويسجن روحها هو من لا تستطيع تفاديه ولا تجاهله، بدءاً من سخريته من لغتها ولفظها غير المتقن، فهو قد سبقها في هذا المضمار بسنوات دراسة ومرحلتين كاملتين، وإن كانت لغته ما تزال غير جيدة. وصولاً إلى قلقه على ابنه بين أيدي مشرفات الحضانة، “فالطفل وإن رضع، فإن افتقاده لأمه يخلق تشويشاً ما! كأن يظن المشرفات أمهاته، ومن لا يشبع من حنان أمه سيكون رجلاً ضعيفاً”.

قبل عدة ليال اكتشف حبوب منع الحمل تحت الثياب في عمق الخزانة، وخلق من ذلك صراعاً كاد يصل حد ضربها، وهددها بأن يحرمها من مصروفها الذي يقتطعه من حصتها في مدفوعات “جوب سنتر” إن فكرتْ بشراء الحبوب ثانية. فهو يستحق ابناً آخر ولا يجوز لها حرمانه من حقه! تعلم الكنّة أن حماتَها من أوحت لابنها بهذا الحل؛ حاملٌ، مرضعٌ، دائماً ستبقى في البيت، ونتجنب ما يحشو الألمان والنساء الأخريات رأسها به، أما تعلّم اللغة، فهو حاجزٌ إن تخطته خرج كل شيء عن السيطرة.

تحت ضغط الجنس اليومي بهاجس الإنجاب، اشترت الزوجة العشرينية حبوباً أخرى لمنع الحمل، منعها الحرج من إبقائها مع صديقتها في المدرسة، وقلقها من الأسئلة التي يثيرها ترك الحبوب مع المدرسة الألمانية، جعلها تجلبها إلى المنزل. كان صدى الاكتشاف هذه المرة مدوياً، تطور إلى الضرب، لم تستطع الصراخ حرجاً، كي لا يسمع الجيران العرب حولها ويعرفون أنها تضرب، هددته بتقديم شكوى للبوليس، صرخ فيها أن ذلك لا يهمه، بدايةً، لكنها كشفت قلقاً في عينيه وتوتراً بعد ساعات، فكرت في القيام بذلك حقاً لو أعاد ضربها.

ظهيرة اليوم التالي عادت من الكورس حاملةً طفلها، لم تسلّم لم تجلس إلى طاولة الطعام، أصرّت على موقفها عدمَ تمرير الموقف ببساطة. لم تكلمها حماتها لم يعلق زوجها على الموضوع. لكن! رن جرس موبايلها، وجاءها صوت والدها الغاضب، متسربلاً بكل الامتيازات التي منحها له العالم الذي جاءت منه، التربية، الطاعة، رأس مرفوع ورأس في الطين، بر الوالدين، تدخلات من الله والأنبياء، مثال بنت فلان وأخت فلان، ثم “لا تظنّي أنك بعيدة وأن لا أحد يحاسبك! حماتك في الغربة أمك، وطاعة زوجك هي العبادة، ونحن ليس لدينا بنت تهدد زوجها بالشرطة، والله لو فعلتها سآتي لدفنك ولو بعت ما فوقي وتحتي. تسمع الإبنة العشرينية صراخ أخيها الأكبر عبر الهاتف قرب أبيها.

ثم يزيد أبوها “على كلٍ لقد كلمت أخاك في السويد، ليأتي ويفهمك ما عليك، وهذه اللغة لا نحتاجها، نحن لنا ابننا، بيتنا، وديننا. وبينما يكمل الوالد الحاضر بكل بهائه وهيبته وسطوته عبر الهاتف صوتاً من قسوة وجلافة، شردت الابنة الأم العشرينية مكسورة الحلم، العروس المضروبة في الحصار الذي تعيشه. 

حماتُها التي تقبع في مدينة هائمة في ذكرى مشوّهة يرممها مسلسل باب الحارة الذي تدخله كل يوم كبوابة أمان كاذبة. زوجُها الذي يخشى غيابها وسيرها في الخارج وانفلاتها مثل الفتيات العاريات في شوارع برلين، الجالسات في أحضان أصدقائهن في مترو الأنفاق، المشمِّسات أجسادهن في الحدائق، وأن تغوى بالأجساد الرياضية الفارعة لشبان يزيدونه طولاً، والأسوأ أن تتشوه بأفكار المدرسات والمرشدات، وقصص البوليس الذي يأخذ الزوجات والأبناء من عائلاتهم لأبسط سبب.

وأيضاً الجدار الذي يمثله والدها الذي يخشى عارها في آخر عمره، أخوها القادم لشدّ شعرها وصفعها كما يقتضي التأديب. طفلها وقد بات جزءاً أساسياً في معادلة ضعفها بالاستناد لأمومتها، وحاجز اللغة الذي تحارب لتخطيه بكل ما فيه من تلعثم وحرج في إيصال أي فكرة أو شراء حاجية أو سؤال عن مكان، والحاجة في كل مرة لوسيط مترجم يسمع ما لا تريد أن يُسمع. 

فكرت الفتاة المحاصرة، كل ذلك الحلم، رحلة الغربة، المسافات، كل ذلك الخوف والبحر والموج، كل ذلك الثمن الذي دفعته، ولم تغادر بعدُ القفص الذي ولدت فيه!

اقرأ/ي أيضاً:

إذا ضربك فهو يحبك! في سياق مكافحة العنف المنزلي.. الحمل الثقيل الذي سافر معنا

ضعف المشاركة السياسية عند النساء اللاجئات

أسباب كثيرة تدفعنا لتعلم اللغة الألمانية على رأسها كونها الأولى في دول الإتحاد الأوروبي

تعذيب وتجريد من الملابس.. الأمن اليوناني يواصل انتهاكاته بحق طالبي اللجوء

في اليوم العالمي للمرأة.. طريق الحرية ما يزال طويلاً