in

أبو لؤلؤة: كيف نفهم تعارض النظرة السنية والشيعية لشخصيات الإسلام الأول؟

تكشف دراسة الروايات التاريخيّة التي ارتبطت بالشخصيّات المؤثّرة على مسرح الحدث السياسي في مرحلة التاريخ الإسلامي المبكّر، عن دور التأثيرات السياسيّة في تشكيل وصياغة “التيمة الرئيسيّة” المرتبطة بتلك الشخصيات، كما أن تطوّر الأفكار المذهبيّة فيما بعد، قد ساهم بشكلٍ كبيرٍ في صبغة تلك الشخصيّات بصبغة مُتخيَّلة، لم تعتمد على التاريخ، بقدر ما اعتمدت على بعض الرمزيّات والإشارات الهوياتيّة الثقافية، والتي تشكّلت في أوساطٍ مذهبيّةٍ بعينها، وتطوّرت في سياقاتٍ تاريخيّةٍ بحتة.

في هذا السياق، نجد أن شخصية فيروز النهاوندي، المشهور بأبي لؤلؤة المجوسي، وهو قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، قد نالت نصيباً وافراً من الاهتمام الروائي عند السنّة والشيعة، حيث تمّ التعامل معه وفق مُخيّلة دوغمائيّة، تعمل على تأويل التاريخ ليتناسب مع الأهداف السياسيّة والمذهبيّة.

مجوسي حاقد: أبو لؤلؤة في السرديّة السنّية

الكثير من المصادر التاريخيّة السنيّة، ومنها على سبيل المثال الطبقات الكبير لابن سعد، وتاريخ الرسل والملوك للطبري، والكامل في التاريخ لابن الأثير، تجتمع على روايةٍ محدّدةٍ فيما يخصُّ حادثة اغتيال أبي لؤلؤة للخليفة الثاني في السادس والعشرين من ذي الحجّة سنة 23هـ.

بحسب تلك الرواية، فإن والي الكوفة المغيرة بن شعبة قد أرسل مولاه المجوسي الفارسي أبا لؤلؤة إلى المدينة المنوّرة، وكان هذا المولى يعمل في بعض المجالات الحرفيّة كالحدادة والنجارة، ولما التقى أبو لؤلؤة بالخليفة عمر بن الخطاب ذات يوم، اشتكى له من ثقل الخراج الذي فرضه عليه المغيرة، ولكن عمر أمره بأن يسدّد لسيّده ما طلب منه، فغضب أبو لؤلؤة، ونوى على قتل عمر، وبالفعل ترصّده بعد عدّة أيام أثناء صلاة الفجر، وطعنه بخنجره، ثم انتحر لما أيقن بوقوعه في يد المسلمين.

هذه الرواية ذاعت واشتهرت في الأغلبيّة الغالبة من المصادر التاريخيّة، حتى أضحت روايةً معتمدةً لتأريخ تلك الحادثة، وذلك على الرغم مما فيها من إشكاليّاتٍ متعدّدةٍ تقدح في مصداقيّتها وصحّتها التاريخيّة.

أولى تلك الإشكاليات، هي كيف سمح عمر بدخول مجوسي من عَبَدَةِ النار إلى مدينة المسلمين المقدّسة؟

الإشكاليّة الثانية، أنه لو تماشينا مع السياق العام للرواية، والذي يظهر فيه أبو لؤلؤة على كونه مجوسيّاً، غير مسلم، لكان من الواجب أن تحدّثنا الرواية عن الجزية التي قُدّرت عليه، وليس فقط عن أموال الخراج التي فرضها عليه المغيرة.

فمما لا شك فيه، أن المسلمين الأوائل قد فرضوا الجزية على كلّ من دخل تحت سلطتهم من يهودٍ أو مسيحيّين أو مجوس، وقد جرى التعامل مع الجزية على كونها حكماً شرعياً لا يقبل التعطيل ولا التأويل، فلم تسقطها السلطة الإسلامّية إلا عن كاهل حالات بعينها، مثل المرض المتسبّب في العجز الكامل، أو انتفاء القدرة على التكسّب بالكلّيّة، ولم ترخّص الكتابات الفقهيّة للخليفة أو الوالي أن يتهاون في تحصيل أموال الجزية، فلماذا تُظهر الرواية شكوى فيروز من الخراج ولا تشير إلى شكواه من الجزية؟ هذا مع ملاحظة أن الجزية كانت متساوية مع الخراج، بحسب ما يذكر القاضي أبو يوسف في كتابه.

أما الإشكال الثالث، فيتمثّل في أن الكثير من الروايات التاريخيّة المتقدّمة والمتأخّرة قد اتفقت مع بعضها البعض على أن أبا لؤلؤة لم يكن متخفيّاً، وأنه كان ظاهراً وواضحاً للمسلمين من حوله، بل إنه قد تحدّث مع عمر داخل المسجد قُبيل الإقدام على طعنه، وهو ما لا يمكن فهمه، إذ أن المسلمين الحاضرين بالمسجد كانوا سيمنعونه من دخول المسجد إذا كان مجوسيّاً.

من تلك الروايات، ما ذكره البلاذري في كتابه أنساب الأشراف “… فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فتأخّر عمر غير بعيد، ثم طعنه ثلاث طعنات…”، وما ذكره ابن شبة في تاريخ المدينة من أن عمر بن الخطاب قد تحدّث مع أبي لؤلؤة قبل الصلاة، هذا بالإضافة إلى الروايات التي يُفهم منها أن أبا لؤلؤة قد وقف ليصلّي بالقرب من عمر، وأنه قد وقف خلفه مباشرة في بعض الأقوال، أو أنه -أي أبا لؤلؤة-قد وقف “بحذائه بالصف” في أقوال أخرى، بحسب ما يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء.

الإشكال الرابع، أن الكثير من المصادر قد اتفقت على أنه كان لأبي لؤلؤة طفلة صغيرة تُدعى لؤلؤة، وأنها كانت “تدّعي الإسلام…”.

والحقيقة أن هذا الوصف ينطوي على قدر كبير من الاستغراب، إذ يحقّ لنا أن نتساءل عمّن نقل الإسلام إلى لؤلؤة؟ تُرى هل كان أبوها الذي تشير معظم الكتابات التاريخيّة اعتناقه المجوسيّة أو النصرانيّة؟ أم أمّها هي التي نقلت لها الإسلام؟ ولكن كيف لهذا أن يتحقّق ومن المعروف أنه لا يحقّ للرجل غير المسلم أن يتزوّج بامرأةٍ مسلمةٍ؟ وإذا ما تجاوزنا جميع تلك الأسئلة السابقة، وسلّمنا بإسلام لؤلؤة مع كفر أبيها، فكيف سمح المجتمع الإسلامي في هذا الوقت بمكوثها في بيت أبيها، وولايته عليها ورعايته لها، ومن المعروف أن القاعدة الشرعيّة المستقرّة تذهب إلى أنه لا ولاية لكافر على مسلم؟

جميع ما تقدّم من نقاطٍ إشكاليّةٍ على الرواية المتقدّمة، تشير إلى أنّ أبا لؤلؤة لم يكن إلا واحداً من المسلمين، من طبقة الموالي الفرس الذين انتشروا في المدينة في عهد عمر، ومما يؤكّد على ذلك، ما ذكره الذهبي، من أن أبا لؤلؤة كان عمّاً لفقيه المدينة وعالمها أبي الزناد عبد الله بن ذكوان.

ولكن يبقى السؤال المهم، لماذا بقيت الروايات التي تنعت فيروز بالمجوسيّة، هي الروايات الشائعة والمشهورة عند المسلمين السنّة تحديداً؟

في الحقيقة، يمكن أن نفسّر الحضور العميق لتلك الرواية في العقل السنّي، بكونها قد تماشت مع أهدافه السياسيّة في الفترة المتقدّمة من تاريخ الإسلام.

السلطة التي كانت تعمل على استكمال عجلة الفتوحات والتوسّعات العسكريّة في البلدان والأقاليم المتاخمة، وجدت في قصّة اغتيال أبي لؤلؤة لعمر، نموذجاً مثالياً، يمكن استغلاله في سياق تغذية حالة العداء العِرْقي والتاريخي بين العرب والفرس.

شجاع الدين: أبو لؤلؤة في السرديّة الشيعية

إذا ما عملنا على تناول وجهة النظر الشيعيّة في شخصية أبي لؤلؤة، سنجد أنها قد مرّت بمجموعةٍ من المراحل التطوّريّة المتعاقبة.

في المرحلة الأولى، التي تظهر فيما كُتب عن أبي لؤلؤة، في مؤلّفات المؤرّخين الشيعة المتقدّمين من أمثال اليعقوبي وابن أعثم الكوفي والمسعودي، فإننا نلاحظ أن روايات هؤلاء المؤرّخين عن فيروز تكاد تتطابق بشكل كامل مع الرؤية السنيّة التقليديّة للواقعة، وخصوصاً في وصفه بالمجوسي.

الإشارة الأولى التي تدلّ على وجود اعتقاد مغاير عند الأوساط الشيعيّة فيما يخصّ شخصية أبي لؤلؤة، نجدها في أحد المؤلّفات السنيّة، حيث ذكر ابن قتيبة الدينوري (تـ. 276هـ) في كتابه عيون الأخبار، تفاصيل نقاش جرى بين شيعي وسني في القرن الثاني الهجري، حيث ترحّم الاوّل على فيروز، وعندما اندهش الثاني من ترحّم صاحبه على مجوسي، ردّ عليه قائلاً “كانت طعنته لعمر إسلامه”، وهو الأمر الذي قد يشير لوقوع نوع ما من التغيير في النظرة الشيعيّة لأبي لؤلؤة.

أما في القرن السابع الهجري، فقد وقع تغييرٌ مهمٌّ، عندما ربطت المُخيّلة الشيعيّة بين ما قام به أبو لؤلؤة من قتله للخليفة الثاني، وبين بعض المظالم المهمّة في السرديات الإمامية، التي كان من أهمّها مسألة إرث فاطمة من أبيها في فدك، وكيف أن قتل أبي لؤلؤة لعمر كان نوعاً من الانتقام لبنت الرسول التي سُلب حقّها، وظهر ذلك في مجموعة من الكتب، ومنها منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للعلامة ابن المطهر الحلي (تـ.726هـ).

التطوّر الأكثر عمقاً في نظرة الشيعة لأبي لؤلؤة، حدث في القرن الحادي عشر الهجري في ظل حكم الدولة الصفويّة بإيران.

من الممكن أن نلمس هذا التطوّر، عند مراجعة ما كتبه عبد الله الأفندي في كتابه رياض العلماء وحياض الفضلاء، عن فيروز، عندما وصفه بأنه “كان من أكابر المسلمين والمجاهدين، بل من خُلّص أتباع أمير المؤمنين عليه السلام…”٠

هذا التغيّر الطارئ في وجهة النظر الشيعيّة لأبي لؤلؤة، ظهرت آثاره في العديد من الطقوس والشعائر الشيعيّة التي لاتزال حاضرة حتى الآن في الثقافة الشيعية الشعبية،  نلمس الحضور العميق لأبي لؤلؤة في شكل سيف ذي الفقار، وهو السيف المرتبط بعلي بن أبي طالب، حيث تمَّ تصوير هذا السيف في الرسومات الصفويّة وما بعدها، على كونه سيفاً ذا شعبتين، وذلك تأثّراً بما رواه المؤرّخون من أن الخنجر الذي قُتل به عمر، كان ذا حدّين، وفي الوقت ذاته، فأننا نلاحظ أن الكثير من الروايات قد تحدّثت عن هروب أبي لؤلؤة إلى إيران، واستقراره بمدينة كاشان، حتى إذا ما مات، دُفن بها وأقيم له مقام، يحظى بأهمية بالغة عند قطّاعٍ كبيرٍ من الشيعة حتى وقتنا هذا.

ويبقى السؤال الأهم، لماذا وقع كل هذا التطوّر في النظرة الشيعيّة لأبي لؤلؤة في العصر الصفوي تحديداً؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال، بأن الدولة الصفويّة التي تأسّست بعد عشرة قرون من الهجرة، التمست في المذهب الشيعي الاثني عشري وسيلةً للحشد المادي والمعنوي ضدّ جيرانها من الأتراك العثمانيين السنّة، وعلى مدار عشرات الأعوام من الاقتتال والصراع الذي لا يهدأ، تشكّلت حزازيات مذهبيّة عظيمة التأثير، حيث انخرط كلٌّ من العاهل الصفوي والخليفة العثماني في تزكية نيران الفتنة المذهبيّة، كما تسابق الاثنان في العمل على استخدام تلك الفتنة لخدمة مصالحهما السياسيّة.

في تلك الظروف التي طغت فيها المقاصد السياسيّة البراغماتيّة، كانت هناك حاجة مُلحّة، لاصطناع رموز ٍمذهبيّةٍ شيعيّةٍ لتصبح مصدر إلهامٍ للحشود العسكريّة المستنزفة طوال الوقت في حروبها مع الفيالق العثمانيّة، وفي هذا السياق، لم تكن هناك شخصية أفضل من شخصية أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب، فهو الفارسي الثائر على الخليفة الثاني الظالم لآل البيت النبوي، حسبما تصوّره الأدبيّات الشيعيّة الإماميّة، وهو –أي أبو لؤلؤة- الجندي الذي ضحّى بنفسه في سبيل إيمانه بمظلوميّة فاطمة من جهة ولاعتقاده بإمامة علي بن أبي طالب من جهة أخرى.

صورة المقالة قطعة من القرن ١٢ أو ١٣، من مقتنيات متحف بروكلين (رابط)

المصدر: رصيف22

 

اقرأ/ي أيضاً من رصيف22:

بين الرفض والإتلاف والسجن… التاريخ الخفي للأحاديث النبوية

قناة CBS الأميركية: “السيسي هو الأقل ذكاءً من بين جميع الزعماء الذين جاؤوا إلى البرنامج على مدار 50 عاماً”

بُني سراً بموافقة السلطات… الكشف عن أول كنيس يهودي في دبي

“يا ورد مين يقطفك” احتمال أن يدفع غرامة مالية كبيرة في ألمانيا

علماء شهيرون قاموا بأعمال رائعة في مجالات أخرى