in

لماذا تصمت المعنفة؟

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

علياء أحمد*

لماذا تسكت نساء لاجئات كثيرات عن العنف الممارس ضدهن؟! لماذا لا تقف المرأة المعنفة في وجه من يؤذيها، من يضربها، ويهين كرامتها؟ لم لا تقول لا، هذا يكفي؟ ولم لا تعمل على اتخاذ الإجراءات المتاحة لوقف الإساءة الموجهة إليها؟.

في بلاد تميّز  قوانينها ضد النساء سلباً، ويضعهن المجتمع في قوالب نمطية تحارب كل من تخترقها، تخشى المرأة خوض المواجهة لأنها ستكون على جبهات مختلفة، في الأسرة والمحيط العام والخاص وحتى في دوائر الشرطة والقضاء. فمجرد قول “لا” للعنف بصورة حازمة يعني فتح جبهات حتى مع آخرين مجهولين لا شأن مباشر لهم بالمسألة، لكنهم يخشون انتقال هذه الـ”لا” إلى محيطهم، فيتضامنون مع شركائهم من ممارسي العنف، عن طريق تكريس ثقافة الخضوع للعادات والتقاليد والدين، وما يستند إليها من قوانين تمييزية من شأنها تعزيز سلطة المجتمع البطريركي على نساء وتقييد حريتهن.

هذه الحرية التي يجب أن تبقى تحت سقف معين يضعه مضطهدو المرأة أنفسهم، فإن خرجت عنه، أو حتى اتهمت بذلك مجرد اتهام، أصبحت منبوذة لا أخلاق لها ولا شرف ولا دين، تجلب “العار” لأهلها الذين لابد أن يعملوا على تصحيح هذا “الإعوجاج” ولو تطلّب الأمر “غسل العار” بالدم.

تعدد الأسباب المؤدية للعنف ضد النساء

وكثيراً ما ينجم عن ذلك أشكال ومستويات مضاعفة ومركبة منه، كما في حالة المرأة اللاجئة التي يضربها زوجها، على سبيل المثال، فهي تتعرّض ليس فقط للعنف الممارس في الفضاء الخاص (محيط الأسرة)، وإنما يمتد لأبعد من ذلك كونه مشرعن له ضمن “ثقافة” المجتمع المحيط الذي هاجر مع أصحابه بقيمه وتقاليده نفسها، ثم يتقاطع مع أشكال عنف أخرى موجودة في “المجتمع المضيف” موجهة ضد اللاجئين عموماً.

فضلاً عن العنف المؤسساتي الجديد، إذا جاز لنا التعبير مثل “العنف اللغوي”، حيث أن مخاطبة الدولة المضيفة للاجئين بلغة جديدة غريبة عنهم منذ أيامهم الأولى فيها، أمر يضعهم تحت ضغوط مضاعفة، ويجعل النساء خصوصاً في أزمة للبحث عمن يمكنه المساعدة في الترجمة وقلما يوجد في الوقت المناسب، مما يضعف قدرتهن على الاستقلال ويعرضهن إلى استغلال من نوع أخر.

من جهة أخرى، يبدو واضحاً أن عدم معرفة لاجئات كثيرات بالقوانين والآليات الكفيلة بحمايتهن، وما يمكنهن فعله عند التعرض للعنف يزيد الطين بلة، لكن الصدمة الأكبر التي تصيب العاملين في هذا المجال أن معرفة كثير من النساء المعنفات بالقوانين لم تغير شيئاً من أوضاعهن، حيث أنهن بقين مستكينات صامتات، يكتفين بذرف الدموع و”الصبر” والاختناق بالألم والحسرة.

تقول إحدى المعنفات “كل ما أفكر به في تلك اللحظات أن يتوقف الضرب فقط، فلا أريد أن أتوجع أكثر”،  وتضيف: “بعد حفلة الضرب المجنون، أتذكر ما جرى وأكره نفسي.. كيف كنت أستجدي وأنا تحت قدمي أخي أن يكف عن الضرب، وهو لا يتوقف بل يزيده رجائي عنفاً ووحشية”.

والمعنّف يتعدد أيضاً

والمعنِّف قد يكون الزوج أو الأب أو الأخ أو حتى الأم أحياناً، بل وفي بعض الحالات قد يحوز هذه “السلطة” أفراد من العائلة الممتدة، فيقوم العم أو الخال أو أولادهما بالتعنيف. وفي مناسبات عديدة، روت سيدات كيف أن من حاولت الاحتماء بذويها هرباً من عنف الزوج، جوبهت لديهم بعنف مشابه لإجبارها على العودة إلى بيت الزوج نفسه، ولكي “لا تخرب بيتها بيدها”. في هذا السياق يجدر التذكير بأن الخوف من الوقوع ضحية ما يسمى “جرائم الشرف” لأوهن الأسباب، وحتى لمجرّد الشبهة، هو مما يرافق النساء أينما حللن، حتى في بلاد الهجرة واللجوء، فهو من أسباب صمتهن عن العنف دون أن يعني هذا أنه السبب الوحيد.

ورغم لجوء كثير من المعنفات إلى الاستكانة والاستجابة لكل ما يرضي الشخص المعنّف، سعياً لتجنّب العنف المسلط عليهن وطلباً للحماية، لكن حتى هذه الوسيلة لا تجدي نفعاً. تقول إحدى السيدات المعنفات: “حتى لو قبلت قدمي زوجي يومياً لا بد أن يخترع قصة  ليضربني بسببها، كأنه مدمن على الضرب مثل مدمني المخدرات ينهار إذا لم يضرب”.

هناك أيضاً عوامل عميقة قد يصل بعضها إلى عوامل سيكولوجية معينة لدى المرأة المُعنفة، مثل تماهيها مع معنفيها، وأزمة الثقة حيال كافة البدائل الأخرى، كأن تعلق إحداهن بسخرية على “دليل الحماية من العنف” الذي تقدمه إحدى الباحثات: “لاأثق بكل هذا، لن يتغير الوضع، كُلٌ سينهش من لحمي بطريقته، فدعوني على الظلم الذي أعرفه أفضل من الظلم الذي سأتعرف عليه”.

لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد النساء المعنفات

وليس هناك معايير واضحة لقياس ما تعيشه النساء ويمكن تصنيفه عنفاً على أساس الجنس، ورغم أن هناك نساء متميزات كسرن حاجز الصمت بشجاعة، إلا أن غيرهن دفعن الأثمان الباهظة وفي المقابل لم يحققن شيئاً سوى التعرّض للمزيد من العنف الممارس ضدهن، الأمر الذي يخيف الأخريات ويخرس صرخاتهن. فالتربية القائمة على أساس الخضوع للسلطة  الذكورية الأعلى ماتزال هي المهيمنة، وتكرسها ثقافة دينية تفرض “طاعة ولي الأمر” كجزء من التدين، سواء كان “ولي الأمر” الأب أو الزوج  أو الأخ.. تبعاً للحالة.

إن مما يقلل من جدوى وفاعلية القوانين والإجراءات الخاصة بمناهضة العنف والتمييز ضد النساء، هو عدم إدراك وفهم الجهات المعنية لمدى عمق تشعب وتداخل الأسباب، والتي يعود غير قليل منها إلى مرجعيات تؤمن بها النساء أنفسهن على أنها حقائق مطلقة، وأن ما يصيبهم إنما هو من “طبيعة الأشياء”، وكل محاولة لتغيير هذا الواقع إنما هي “خروج عن الطاعة” و”شذوذ” لا تمارسه سوى فئة من النساء توسم، حتى من قبل نساء أخريات، بأقذع الصفات التي لا ترضاها أي امرأة لنفسها، فتفضل أن تبقى “حرة في أسرها. لكن إلى متى؟

*علياء أحمد. باحثة سورية في قضايا المرأة والطفل مقيمة في ألمانيا.

اقرأ أيضاً:

ألمانيا: توزيع منشورات توعية للاجئات ضد العنف الذكوري

النساء اللاجئات وحقوقهن المعطّلة

إقرار قانون يجرم العنف والتمييز ضد المرأة في البرلمان التونسي

دراسة مصرية: حقوق النساء المطلقات في زمن الفراعنة تضاهي عصرنا هذا

581 مليون يورو حصلت عليها الأحزاب الألمانية في العام الماضي

مقتل وإصابة نحو 300 روسي في دير الزور خلال أسبوع