in

زاوية يوميات مهاجرة 4: مرحلة العدم

اللوحة للفنانة نسرين أبو بكر
اللوحة للفنانة نسرين أبو بكر

د. نعمت أتاسي*

في رحلة من رحلات صديقتي السورية إلى تلك المدينة الفرنسية لتفقد بريدها الذي كانت تنتظره، ستتفاجأ بنفسها وبأنها لم تعد متلهفة لاستلام قرار تحديد مصيرها، بل حتى بدأت تستمتع بهذه الحالة من اللاوجود واللاإنتماء، والتي أطلقت عليها اسم: “مرحلة العدم”. فهي فعلياً لا وجود لها، وليس هناك حالة تنتسب إليها ولا موقع يعرَفها، إنها بالكاد كائن ما!

بينما كان الضياع في وقت سابق يشتّت أوصالها ويشعرها بالحنين إلى روتين من شأنه أن يحميها من التشرد، ويوفر لها أرضاً صلبة تقف عليها، ستحررها مرحلة العدم هذه من كثير من القيود. بعد أن كانت تعشق الشعور بالمسؤولية و تكبَل نفسها بما من شأنه أن يحكم وثاقها، كهوايتها بالقيام بالكثير من الواجبات العائلية والاجتماعية والإنسانية والدينية والثقافية التي لا نهاية لها فقط لتشعر بالتزامها ومسؤوليتها، هكذا كانت ترى نفسها وتعرَف وجودها، وها هي الآن قد بدأت تتحرر من كل هذه القيود.

ستدخل صديقتي في دائرة مرحلة العدم، وستبدأ تتعرف على نفسها شيئاً فشيئاً، وإن كان هذا متأخراً بعض الشيء طبعاً (50 عاماً فقط). حسناً لنقل إنها اعتادت اكتشافاتها المتأخرة بل وعشقتها، وغالباً ما كانت ترددها همساً أو بصوت عالٍ وكأنها تفتخر بها. نعم لقد استغرقت 25 عاماً لتعرف أنها غير سعيدة في حياتها الزوجية، و30 عاماً لتكتشف أنها تعشق الأزهار الصفراء، و45 عاماً لتدرك أنها تخشى المرتفعات و50 عاماً حتى اعترفت لنفسها بأنها طيبة لدرجة الحماقة، وأخيراً 55 عاماً حتى اكتشفت بأن أسنانها بحاجة ماسة إلى تقويم.

ها هي مرحلة العدم التي تعيشها الآن تحررها من كل شيء، فلم يعد يهمٌها أن تلتزم بأي شيء حتى أنها باتت ترفض فكرة الالتزام أصلاً، والأكثر من ذلك أنه لم يعد يهمٌها أن تظهر بمظهر الإنسانة التي تقوم بواجباتها على أتم وجه، فمن الآن وصاعداً ستكره صديقتي الإنسانة المسؤولة.

هذه الحالة من اللاوجود أسعدتها، فهي ليست سائحة في هذه البلد ولم تعد مقيمة فيه رسمياً، وحتى الآن لم تصبح لاجئة. هي لا تنتمي إلى بلدٍ ما، فقدت جواز سفرها السوري ولا تملك أي ورقة ثبوتية فرنسية. لا عنوان فعلي لها، وهذا ما سيشعرها بالانتشاء الكامل.

كان يحلو لصديقتي أن تمشي في حدائق باريس الكبيرة على غير هدى، وتكتشف كل ركن وزاوية فيها. كثيراً ما استلقت على العشب الرطب لتراقب الشجر لساعات، حيث تشعر بروحها وكأنها شجرة تنمو لتقترب من السماء. شعور جميل كان يجتاح حياتها ويغمرها بسعادة فائقة، احتارت صديقتي في ماهية هذا الشعور: هل هو شعور الاسترخاء والخدر اللذيذ اللذان يريحان أوصالها؟ أو شعور الإعجاب الذي ينتابها لتمازج لون الشجر الأخضر مع لون السماء الزرقاء الصافية؟ أم هو، وبكل بساطة، شعور الحيرة الذي يعتريها حين تسأل نفسها أي لونٍ أحب إلى قلبها: الأخضر أم الأزرق؟ ستعترف صديقتي لنفسها بأنها لحد الآن لا تعرف أي اللونين تفضٌل، ولكن هذا لا يزعجها فقد اعتادت اكتشافاتها المتأخرة، وهي على ثقة تامة بأنها يوماً ما ستقرر وتكتشف أي اللونين تفضٌل.

اليوم وهي جالسة في القطار تتأمل تتابع المناظر الطبيعية أمام عينيها: الأشجار، الغيوم، الأزهار، جداول المياه، تحاول جاهدة تثبيت صورة ما، التقاط زهرة لتنشق رائحتها، لمس ماء الجدول البارد، عبثاً، إنها الطبيعة الحرٌة التي ترفض الثبات والقيود. ابتسمت صديقتي لأنها أضافت اليوم لقائمة اكتشافاتها المتأخرة اكتشافا آخر: هذا الشعور الجميل الذي يدغدغ أوصالها والذي تشعر به الآن في حالة العدمية هذه، هو نفسه الذي كانت تشعر به عندما كانت تنظر إلى السماء في الحديقة ما هو إلا الشعور بالحرية.

الآن فقط أدركت وتأكدت من معنى الحرية التي طالما طالبت بها في المظاهرات التي كانت تشارك فيها في وطنها السابق وحياتها السابقة. وأخيراً تحررت صديقتي من كل قيودها، حالة العدم هذه حررتها من كل شيء حتى من مخاوفها، لم يعد هناك قيود تكبل أيديها، حتى قلمها انساب بسلاسة وبدأ يسكب أفكارها ويخطّها على الورق.

سيطربها الشعور باللاانتماء وستكتشف صديقتي أنها لا تنتمي لأي مكان ولا تريد حتى الانتماء لأي مكان بعد اليوم. ستردد بينها وبين نفسها حتى تتأكد من هذا الشعور: “أنا لا أنتمي لأحد، لا أنتمي لشيء ولا لمكان ولا لزمان”.

في هذه اللحظة ستسمع صديقتي صوتها في عربة القطار وهي تقول بصوت عالٍ: “أنا حرة… أنا حرة”.

*كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس

 

اقرأ/ي أيضاً في زاوية يوميات مهاجرة:

زاوية يوميات مهاجرة 3: قبعة الإخفاء

زاوية يوميات مهاجرة 2: شيزوفرينيا

زاوية يوميات مهاجرة 1: صديقتي البرجوازية في طابور اللاجئين

سوريا وذكرى الثورة العظيمة

بعد يومٍ من المجزرة.. استنكار عالمي وإجراءات احترازية وردود أفعال عالمية