in

زاوية يوميات مهاجرة 14: طابور الحياة…

د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس

الوقوف في الطابور هو ظاهرة تستحق الدراسة، فهي تعكس سلوكيات تعطي صورة عن واقع المجتمع. ومن الممكن أن تكون دراسة سوسيولوجية تفيد في وصف كامل للمواطن.

أما عن الوقوف في الطابور في سوريا فهو مستهجن وغير محبب، ويحدَ من قيمتك كمواطن. إن حصل ووجدت نفسك أمام طابور ما في دائرة حكومية، فإنك تستطيع بهدوء تجاوزه، لتصل إلى الموظف وبابتسامة الواثق من نفسه وكلمة “صباح الخير” وتضع بيده بعض ما يجعل نهاره سعيداً. هكذا تتجاوز العقبات ولكن طبعاً لا تخلص من شتائم الآخرين. ولكنها عادة ما كانت تُقابل بلا مبالاة. 

سواء كنت مع النظام أو تعاديه سراً، فإن إدارة شؤونك اليومية هي أمرٌ آخر تتجاوز فيه معارضتك وتضطر أن تتناسى مبادئك وتقوم بكل ما يقوم به أي مواطن و”حربوق”. 

عندما كانت هذه الازدواجية تفتك بنا، كنا نوهم أنفسنا –وخصوصاً نحن النساء– بأن الوقوف في الطابور يعرضنا للكثير من المشاكسات، متناسيات أننا نطالب بحقوق المرأة والمساواة مع الرجل.

لنتكلم ببعض الواقعية والصدق، إن وقوف المرأة في الطابور يُعد فرصة ذهبية لما يُسمى بالجنس الخشن، حيث يتسابق الشباب للالتفاف حولها مع بعض المزاح لكسب إعجابها، ويأتي الأكبر سناً للتقرب بحجة حمايتها .

أما الوقوف في الطابور في فرنسا فله حكاية أخرى. فهو من مظاهر الحياة الاعتيادية والذي نقابله ليس فقط في الدوائر الحكومية والمطارات، بل في كل مكان ابتداءً بالمصارف إلى المحال التجارية ووصولاً إلى محطة القطار والمترو، إن كنت تريد القيام ببعض المشتريات فالطابور بانتظارك. وإن أردت شراء زجاجة ماء أو قطعة خبز فعليك الوقوف في الطابور. ناهيك عن الطابور الذي عليك تحمله لدقائق ربما تطول لتشعرك وكأنها دهراً كاملاً عندما تريد أن تستخدم المراحيض العمومية. ولن أتكلم هنا عن ذلك الوقوف في الطابور أمام مطعم  مشهور في باريس حيث لا حجز مسبق فيه لكثرة زبائنه، فهذا يخرج عن نطاق حديثنا.

الوقوف في الطابور هنا هو من ميزات الحياة العصرية المتمدنة، حيث يُعتبر كل المواطنين سواسية وعليهم التقيد بالنظام. والمواطن الفرنسي لا يشعر بأي عقدة نقص إن وقف في الطابور، لا بل وقوفه هذا يزيد من شعوره بأهميته وبمواطنيته. ولذلك فهو لا يحاول تجاوز غيره، ليس لأن لديه الوقت الكافي للانتظار، وإنما بكل بساطة لأن هناك علاقة صحيحة بين الفرد والمجتمع تقوم على الالتزام بالواجبات والحقوق.

عادةً ما تكون دقائق الوقوف في الطابور فرصة للتعارف وتبادل الأحاديث المختلفة، وخصوصاُ عندما يكون من يقف أمامك امرأة مسنة نوعاً ما ولا تجد من تكلمه في منزلها فتقتنص هذه الفرصة لتفرغ ما بجعبتها من فضول ورغبة في الكلام.

يحدث أحياناً أن يأتي أحدهم ليتجاوز من يقف أمامه ويتجاهل الحاضرين، ولكنه يُقابل بكل صرخات الغضب والاستنكار والكل ينظر إليه شزراً حتى يشعر بالخجل ويتراجع ليقف في النهاية وهو يقدم اعتذاراته.

الوضع يختلف تماماً عند الحديث عن الوقوف في الطابور عند طالبي اللجوء، سواء أمام جمعيات استقبال اللاجئين أو عند استكمال أوراقهم الرسمية عند الشرطة أو البلدية. نستطيع القول إن الطابور هنا يختلف بنوعه وطوله والزمن المعتمد فيه وحتى سلوكياته ولغته عن الطابور العادي. 

طابور اللاجئين يا أصدقائي قد يمتد على مسافة كيلومتر أو حتى اثنين، لا تتفاجؤوا فالعدالة والمساواة والسلام وحرية التعبير تعمُ أرجاء الكون. يتجاوز زمن الانتظار فيه ساعات طويلة قد تبدأ عند الثالثة فجراً وحتى الثانية عشرة ظهراً (موعد إغلاق جمعية استقبال اللاجئين).

يتبادل المنتظرون الكثير من الأحاديث، وهنا لا يهم إن كانوا يتقنون لغة واحدة لأن المناقشة تأخذ طابعاً طريفاً، فلا حاجة لقواعد لغة للتواصل، ما يلزم هو بعض الكلمات المتفرقة ليأخذ التعارف مجراه بسلاسة.

والطريف بالأمر هو التعاطف بين الواقفين في الطابور وتسامحهم فيما بينهم وكأن محنهم قد جمعتهم. هنا التسامح يأخذ مكانةً كبيرة مما يجعلك تُقابل بابتسامة إذا ما تجاوزت دورك، ولا داع للتحايل فمن يقف أولاً قد يعطي دوره بكل لطف لامرأة تقف مع طفل صغير، وكأن الإحساس بالغير يتفاقم عند اللاجئ.

بالنسبة لي وبشكلٍ شخصي، فإن الوقوف في الطابور هو فرصة رائعة أقتنصها لأرسم بمخيلتي حياة كل من يقف أمامي أو خلفي بحسب عمره ومظهره، وأعطيه دوراً وهدفاً وسبباً لحياته، كما أتصور ماضيه وحاضره ومستقبله حتى أنني أعطيه اسماً يناسبه. أحياناً كنت أتعاطف مع من أعجبتني سيرة الحياة التي رسمتها له وأخرى أنفر منه لأن الخطوط التي رسمتها لحياته لم تعجبني. وكم حدث أن أنسى وصولي لدوري وأنا غارقة في تأملاتي أخط مسيرة حياة شخصٍ ما ورائي.

يوميات أُخرى:

زاوية يوميات مهاجرة 13: باريس وأبوابها السبعون …!

زاوية يوميات مهاجرة 12: للمنفى قصص تطول…!

زاوية يوميات مهاجرة 11 : صباح يوم غير عادي …!

سوري يقتل زوجته وطفله بعد عودتهم من أوروبا إلى سوريا

تغييرات جديدة في إجراءات الحصول على تأشيرة “شينغن” الخاصة بالاتحاد الأوروبي