in

رمان..

العمل الفني: عبد الرزاق شبلوط
راكان غالب حسين. كاتب فلسطيني سوري مقيم في ألمانيا

إسمه المنقوش على غطاء الساعة جعل مسألة الوصول لأقاربه أقل صعوبة. وضعته على محرك البحث غوغل، أعطاني خمسة أسماء في قرى نمساوية توزعت عند أقدام جبال الألب. ساعات كثيرة توقفت دون أن يُعرف الزمن الذي انتهى فيه فعل النبض في قلوب أصحابها.

ترددت قليلاً قبل ضغط زر الإرسال بعد أن عبرت عن رغبتي بلقائه وتسليمه أمانة احتفظت بها لمئة عام. كتبت أنني أحمل شيئاً يخص مهندس الخطوط الحديدية فولف غانغ هايترش، الذي قتل قبل مئة عام بالتمام في قرية المزيريب جنوب سوريا.

جاءني الرد: إنه جدي وسنكون سعداء بأي معلومة أو شيء يخصه. ودعاني لزيارته.

كتبت له أنني أحتاج لمعرفة الوقت الذي يناسبه للزيارة. فأجاب: يوم السبت بعد القادم سيكون مناسباً جداً، وأرفق العنوان.

حادث على دراجة نارية، على الطريق الزراعية شمال المزيريب كان سبباً جعل “شحادة العبيد” يبحث عن وسيلة ليرد لي ما اعتبره جميلاً لا يستطيع نسيانه. أسعفت الشاب المطروح أرضاً بلا حراك إلى المشفى، بقيت إلى جانبه إلى أن وصل والده.

زرته في بيته بعد خروجه. أخرج شحادة العبيد ساعة جيب فضية بسلسلة، من علبة شاي معدنية قديمة، انمحت عنها الكتابة والألوان والرسوم. ساعة ورثها عن والده، وخبأها لعشرات السنين وقال: – هل تقبل هذه الساعة المعطلة كهدية، أنت ستقدر قيمتها وبالطبع أنت تستحقها.

ساعة أنيقة محفور على غطائها الخلفي اسم صاحبها، ترددت بقبولها لكنه أصرّ علي، فأخذتها.

قال مجدداً:
– صاحب هذه الساعة مهندس نمساوي كان موظفاً في شركة ألمانية عملت على إعادة تأهيل خط الحجاز الذي خربه لورانس وحلفاؤه من البدو. الخط الذي خرج عن الخدمة بعد تسع سنوات فقط على الانتهاء من إنجازه.

هي من النوع الذي يعمل على النبض. توقفت عند تاريخ 27 أيلول عام 1918.  نبض الساعة كان وفيّاً لنبضات قلب صاحبها.

عدت للحكاية في كتب التاريخ، وقرأت عن مجزرة راح ضحيتها ألفا شخص في ذلك اليوم. كان الضحايا كل سكان قلعة المزيريب، من الأتراك وحلفائهم. مئتان وخمسون من القتلى هم ألمان ونمساويين.

دمر الإنكليز السكة الحديدية حين ذاك ليقطعوا إمدادات الأتراك العسكرية . أما بدو المنطقة فقد رأوا القطار وحشاً حديدياً نازعهم على حصتهم من قوافل الحجيج التي كانت تمرّ في دروبهم.

في ذلك اليوم هرب كل سكان القلعة حين علموا بالحشد الكبير من الإنكليز وحلفائهم البدو العرب بقيادة لورانس. يقال أن لورانس طلب من جنوده الإجهاز على الجميع وعدم أسر أي من الهاربين.

عندما قتلت أمي وزوجتي في مجزرة رهيبة في شباط 2014 كان قد مرّ على وجود الساعة في بيتي عشرة أعوام. بعد أن استجمعت توازني لمحت الساعة المعلقة على الجدار، وجدتها متوقفة أيضاً على الحادية عشر، لحظة سقوط البرميل. قطعت على الفور عهداً أن أبحث عن أسرة صاحب تلك الساعة ذات السلسلة وأعيدها لهم لعل ساعتنا تنبض من جديد.

بعد أن وصلت إلى ألمانيا في العام 2016، تواصلت عبر الإنترنت مع أحد أحفاد المهندس القتيل، اتفقنا على موعد اللقاء، وأرسلت له ساعة الوصول إلى بلدتهم.

دامت الرحلة خمس ساعات في القطار السريع. أمضيت كل الوقت أفكر بأن أمي وزوجتي حورية ستسعدان بوصول الساعة لأصحابها. وتخيلت أنّ ساعتنا المعلقة على جدار غرفة الجلوس في بيت أمي ستعمل من جديد.

توقف القطار، كانت البلدة بقضّها وقضيضها تنتظرني في المحطة. تقدم الرجل الذي تواصلت معه، كان أصغر أحفاد فولف غانغ هايترش. قدم لي طوق ورد جميل. عرّفني عن نفسه وبدأ بتقديم المستقبلين . رئيس البلدية ورجال كثر من البلدة وصحفيين. ثم أخذوني إلى بيت المهندس القتيل، دخلنا صالة واسعة باذخة، أشار إلى لوحة مرسوم عليها وجه كئيب لرجل قال أنه جده فولف غانغ.

في الصالة وأمام اللوحة وبحضور الكثيرين، أخرجت من جيبي الساعة التي مرّ على زمنها المتوقف مئة عام. شهقوا حين قرأوا الإسم. في هذه اللحظة وبينما هم مشغولون بالساعة، كنت أتملّى اللوحة لأتعرف على صاحب الساعة. لولا الشاربين الأشقرين لقلت إنها صورة الحفيد الوسيم الذي استقبلني قبل قليل في المحطة.

تبدلت ملامح الرجل في اللوحة، اعتدل في جلسته، وأطلق ابتسامةً جميلة بددت الحزن الذي كان قبل قليل يعلو هيئته.

اختفى الجميع دفعة واحدة، دخلت أمي وحورية من الممر الذي تحول في لحظة إلى حقل رمان. حقل الرمان الذي زرعته منذ سنوات وأكل منه آلاف الناس ولم أذقه. حملت كل واحدة منهما سلة مليئة بالثمار، تقدم فولف غانغ يضحك وبيده غليون. انبعثت موسيقى أو لمتنا جميعاً للرقص. في لحظة شرود رأيت الغرقى يخرجون من البحار والمعذبين في الأقبية يأتون معهم، رأيت أصدقائي الذين قتلوا جميعا يملأون حلبة رقص امتدت من المزيريب حتى هاهنا. وجه أمي كان صافياً لا تجاعيد ولا تصبغات، ورحل الشيب من رأسها.

من قال أن الله لا يحب الموسيقى، كيف لا يحبها وهي تملأ هذا الفردوس الذي نعيش فيه نحن الشهداء الضحايا منذ أن سقط علينا ذلك البرميل المتفجر واجتمعت أشلاؤنا هنا، كيف؟

اقرأ/ي أيضاً:

سكانيا..

ماذا سيكتب عنا التاريخ ؟!

في الذكرى الـ75 لقصف دريسدن.. الرئيس الألماني يندد بـ”المتلاعبين بالتاريخ”

هل نجوتَِ؟؟ عن مفهوم النجاة والهروب لدى لاجئين سوريين في ألمانيا