in

أحلم أن أنتخب

ربع قرن ونيّف هي الفترة التي كان يُفترض أن يحق لي خلالها الانتخاب والترشح، سواء لانتخابات برلمانية أورئاسية في أي وطن أعيش فيه. وأنا عشت في سوريا جلّ حياتي وللأسف كانت كلها في عهد نظام الأسد (الأب والابن).

وحدث أن قام نظام الأسد بإنتاج تمثيلية الديمقراطية وقدم نموذجه في الانتخابات والترشح على الأقل فيما يتعلق بانتخابات البرلمان أو مجلس الشعب كما يحب أن يسميه، وقبل ثلاثة أعوام في انتخاباته الرئاسية التي سمح فيها لشخصين أن يترشحا مقابله. وحدث أيضاً أني عشت كل تلك التمثيليات، لكن لم يتح لي إلا التعليق عليها والسخرية منها في السر بطبيعة الحال، دون أن أتمكن من المشاركة فيها كوني فلسطيني، وليس لفلسطينيي الشتات الحق في المشاركة في انتخابات بلد أجنبي عنهم. وحقيقة ليس لهم الحق في المشاركة بأي انتخابات كونهم سيبقون أجانب وبدون وطن، كما تسميهم الحكومات الأوروبية جهراً، والحكومات العربية سراً.

ولأنني من النوع الفلسطيني النادر (فلسطينيو السبعين) لم أتمكن من حمل بطاقة الإقامة المؤقتة في سوريا ولم أنعم بصفة اللاجئ التي تتيح لفلسطينيي سوريا العمل في المؤسسات العامة والحكومية وعضوية النقابات التي تحدث فيها انتخابات ويستطيع من يعمل فيها أن يرشح نفسه لمنصبٍ ما.

أنا الفلسطيني الـ”بدون”، الذي رمته الأقدار ذات حرب على أطراف غوطة دمشق

أنا من قرأ عن الديمقراطيات في العالم منذ بدء التاريخ وعرف جان جاك روسو وعقده الاجتماعي متلمساً خطى أرسطو وأفلاطون في جمهوريته الفاضلة. من قرأ آداب سكان الأرض وعرف عن حياتهم وعاداتهم وحقوقهم وواجباتهم والمظالم والظلم الذي تعرضوا له، ليس لي الحق بأن أكون مثلهم، بل ليس لي أن أقرر فيما إذا كان شخصٌ ما مؤهلاً لتمثيلي في مجلسٍ قد يستطيع مواجهة السلطة إن طغت وتجبرت، ويستطيع سن القوانين وإقرارها أو تعديلها أو التصويت ضدها. لا يحق لي أن أكون ممثِلاً لجماعةٍ انتخبتني، ولا أستطيع بموجب هذا الانتخاب مساندتها في وجه المظالم.

كنت أرى خيام المرشحين في العرس الديمقراطي الأسدي، وأرى حفلات الدبكة والشاي والقهوة والطعام في كثير منها، وأعرف الكثيرين ممن عملوا في خدمة هذا المرشح أو ذاك، وكذلك خطاطين ورسامين يعتبرون فترة الانتخابات موسماً مثمراً لإنتاج اللافتات التي تلفق الوعود المجانية، وأعرف الكثيرين ممن ينتظرون الـخمسمائة ليرة ولاحقاً الألف ليرة وأحياناً أشياء يتاجر بها المرشح، وصلت حتى لمواد الدهان، يتلقونها من خدم المرشح مقابل بيع صوتهم، وحتى هذه المفسدة الصغيرة لم يتح لي المشاركة فيها أو الاستفادة منها.

هل أريد أن أترشح لمنصبٍ ما، كعضوية نقابة مثلاً، أو برلمان، أو لرئاسة الجمهورية لا سمح الله؟ بالتأكيد لا. لا يسمح عقلي بهذه الرفاهية المطلقة في التفكير، فقط أريد حقي في رؤية صوتي رقماً في نتائج مرشح ما، حقي بالمساواة مع البشر حتى لو مشوا كالقطيع في بلد يحكمه التيس.

أنا في هولندا منذ عامين تقريباً وحصلت أخيراً على صفة اللاجئ. في منتصف آذار الماضي انتخب الشعب الهولندي مرشحيه لعضوية البرلمان، هذه الانتخابات التي تؤدي لتشكيل الحكومة الجديدة، والتي حل فيها حزب الشعب للحرية والديمقراطية بزعامة مارك روته في المرتبة الأولى، وجاء حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز في المرتبة الثانية، ورأيت الهولنديين وحماسهم وترقبهم للنتائج التي تعتبر مفصلاً أوروبيا حاسماً في ظل صعود التيارات الشعبوية والعنصرية المعادية للاجئين والأجانب وفي ظل دعوات الانفصال عن أوروبا.

تابعت النقاشات حول الانتخابات على التلفزيون الهولندي وفي الشارع والمدرسة وشاركت في بعضها. بعضهم قال أن الهولنديين لا يفضلون رئيس الوزراء الحالي لكنهم بطبيعة الحال لن يصوتوا لليميني المتطرف، وإن تمكن من الفوز فلن يتمكن من تشكيل حكومة لأن الأحزاب المعتدلة القوية لن تشاركه فيها. بالطبع ليست الانتخابات في هولندا أو في أي دولةٍ أخرى هاجساً، إنما هاجسي هو أن أتمكن من المشاركة فيها والتعبير عن رأيي، واستطاعتي في قول: لا أريد هذا المرشح وأريد ذاك، أو أن أحتفظ بحقي في عدم التصويت، نعم لا أريد التصويت هذه السنة، هذه حريتي، لا أريد التصويت وأنا قادر على التصويت، وليس لأنني لا أستطيع.

قد أحصل في العام القادم أو الذي يليه على هذا الحق، قد أمارسه أو أحجبه عن المرشحين، وقد يزداد طموحي فأفكر برفاهية هذه المرة بأن أرشح نفسي، حتى لو كنت مشروع مواطن مفلس في دولة ثرية.

وبالتأكيد سينال طفلاي هذا الحق بعد سنوات، ولن يكون في ذاكراتهم خيم العرس الديمقراطي السوري أو العربي، سيترشحون أوسينتخبون، ويحققون أبسط الأحلام؛ المساواة مع باقي البشر في أبسط الحقوق.

محمد داود ـ كاتب سوري فلسطيني مقيم في هولندا

اقرأ أيضا:

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

لاجئون وأكثر

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق

لمن هذا الشارع؟

test text text text text

بين اللجوء في ألمانيا ومتطلبات العمل السياسي، حوار مع أليس مفرج

سوف أروي – عن الحرب إقليم الموتى