in

كَيفَ يبقى أولادُنا أولادَنا على أرض ألمانية؟

اللوحة للفنان حسكو حسكو

هيفين تمو | شاعرة سورية

كَثيرةٌ هي الأسباب التي تدعوني أحيانًا للتساؤل في هذه البلاد، لا يمكن حصرها أو عدّها، أسباب بعيدة كليًا عن السياسة والحرب وخرابها. حين أستمع لجارتي اللبنانية وهي تتكلمُ عن قصص الأمهات غير القادرات على تربية أبنائهن، أو تلكَ الأم السورية التي خضعت لكثيرٍ من الملاحظات والشكاوى عن سوء معاملتها لابنها، أفكر في المستقبل الذي أحلم به لأطفالي هنا في المانيا، دون أن أخسرهم، أو حتى أن يضيعوا مني في تيه هذه البلاد.

تجارب الأمومة وحتى الأبوّة هنا في المنفى تُعمق هوّة الخوف الذي ينتابُني أحيانًا حين أوجه سؤالاً لابنتي التي لم تتجاوز العامين: هل أنت سورية أم ألمانية؟ تجيب بلغةٍ كرديةٍ مُكسّرة: أنا ألمانية ماما.

أضع خططًا كثيرة أمامي، وأتبع استراتيجة معينة في تربية الأولاد، وأفكر كيف أشرح لهم الوطن والبلد الذي تآكلت فيه الأحلام، حين تتأمل ابنتي صورة والدي تسأل عنه، وتقلّده كما هو في الصورة، وتبتسم بمجرد أن تعرف أنه جَدها.

في قناة الأطفال الألمانية، هناك فقرة لا تتجاوز مدتها الدقائق يتحدثون فيها باللغة العربية، كَعدّ الأرقام والتحدث ببضع كلماتٍ وترجمتها للألمانية، تستمع ابنتي إليها ولكنها تحفظها بلغة ألمانية، تفهم معانيها وتننطق ببعض كلمات منها، إلا أنها تتحدث الألمانية بشكل أفضل. يقلقني ألّا تتقن ابنتي اللغة العربية بحكم أننا نتحدث الكردية في المنزل.

أن تُنشئ أبناءكَ على أرضٍ غير أرضهم؛ فهذا يعني أنك تمشي في طريقٍ صعب جدًا، أن تحافظ على هويتهم، عاداتهم، أن تفكر بعيدًا عن هموم الحرب في منفى اخترت اللجوء إليه من أجلهم، في منفى بدون حقائب وبدون مفاتيح عودة بعد أن محوت وراءكَ خطواتك. أن تُنشئ أبناءكَ بعيدًا عن بلاد الهدن الخاسرة  دون أن يكون للحنين في وجهك ثقبٌ….. كُل مراهناتنا على النسيان تكون خاسرة قبل حتى أن تبدأ.

ما تعرفه ابنتي عن لغتها الكردية هو ما تلتقطهُ من الهواء دون أن تدرك أن هذا الهواء في هذه البلاد يرتجف في داخلنا نحن الكبار. التفكير بأولادي على أرض ألمانية يثير لدي الشكوك كثيرًا حول لغتهم وهويتهم وكيفية الحفاظ عليها، ذلك الصوت المتمزق في رأسي الذي يجعلني أثني ركبتيَ في الليل وأتنهد بعمق، أتساءل أحيانًا لماذا لا يُمكنني التكيّف أنا أيضا كالأطفال مع لغة الاندماج هذه؟ لماذا لا يمكنني التكيف على أرضٍ ألمانية بلغتي أنا؟

قد يتم إنقاذك مع الزمن، وقد يُعاد تشكيل وعي جديد، لكن.. يبقى الحنين يتلوّى في وجهك وملامحك السورية، البلد الأم بكلّ ما فيها من عَبث وعثراتٍ فوضوية، البلد الذي لا تملك فيه سوى ذكرياتٍ بهتت ألوانها، وتنازلاتٍ، وخسارات.. عالقة هناك.

نحت الهوية

“أمل” كورال متعدد الثقافات يؤسسه سوريون في برلين