in ,

في ذكرى انطلاق الثورة ومعناها

اللوحة للفنان دييغو ريفيرا

د. حسام الدين درويش*

تأتي ذكرى انطلاق الثورة السورية في وقتٍ عصيبٍ على السوريين؛ فقوات تنظيم الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين وميليشياتهم يقومون باجتياحٍ همجيٍّ للغوطة أحد أهم معاقل الثورة، ويرافق ذلك قتلٌ وتشريدٌ لأهلها؛ وقصفٌ جويٌّ لمناطق في إدلب وحماه ودرعا وحمص وحلب؛ وغزوٌ تركيٌّ لعفرين وتشريدٌ لأهلها وإجرامٌ بحقهم، وهذا الغزو يستخدم مقاتلين تحت راية “الجيش الحر”؛ بحجة أن القوات المسيطرة على عفرين تنتمي للميليشيات ذاتها التي شاركت باحتلال أراضي هؤلاء المقاتلين وتهجيرهم سابقاً.

كل ذلك يجعل مشاعر السوريين في ذكرى ثورتهم متضاربةً بل ومتناقضةً أيضاً. فمن جهة، يشعر معظم الثائرين على النظام، أو مؤيدو الثورة ضده، بالفخر بثورتهم وبضرورتها الأخلاقية قبل السياسية، وبكونها الحدث الأبرز في تاريخهم الشخصي وتاريخ بلدهم وشعبهم. ومن جهةٍ ثانيةٍ، تنتابهم مشاعر الألم والإحباط والقهر الشديد بسبب استمرار جرائم النظام ومؤيديه والنتائج الكارثية لقمعه للثورة والمتمثلة بموت وإصابة مئات الآلاف، وتهجير وتشريد ملايين آخرين يعيشون في أوضاع بالغة السوء في سوريا وخارجها.

كارثية الأوضاع السورية دفعت البعض إلى اليأس لدرجة القول “ليتها لم تكن”، وازدادت المحاجات، التي تستند إلى “براغماتية أخلاقية”، والتي ترى أن الحجم الهائل للضحايا والدمار والانقسام الذي حل بالبلد، إضافةً إلى لامبالاة “المجتمع الدولي” حيال جرائم النظام، تدفع ليس فقط إلى تمني ألا تكون الثورة قد حصلت، بل وإلى قبول انتصار النظام وهزيمة الثورة والتكيف مع ذلك بأفضل وسيلة ممكنة أو أقلها سوءًا. وفي هذا السياق، يبدو المنطق البراغماتي واضحًا في اتخاذ النتائج معيارًا للحكم على الفعل، وغض النظر عن مبدئية الفعل وضرورته الأخلاقية والسياسية.

في ذكرى انطلاق الثورة، من الضروري التصدي لهذا المنطق والخطاب، وإعادة التذكير ببعض البديهيات المعرفية والأخلاقية والسياسية.

إن جرائم النظام الرهيبة بحق شعبه الثائر هي سببٌ إضافيّ للثورة عليه وللتمسك بهذه الثورة وليست ذريعةً للخضوع له، كما يروِّج البعض تحت مزاعم العقلانية والبراغماتية (الأخلاقية). فكمُّ وكيفُ الجرائم التي ارتكبها تنظيم الأسد (الأب والإبن) بحق السوريين طوال سنوات حكمه، يقدمان كل الأسباب الضرورية للثورة. ولا ينبغي أن نتوهم أن هذا النظام سعى لإصلاح ذاته يوماً. فالأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية كانت من سيئٍ لأسوأ. ويكفي التذكير بالحملة الشديدة التي شنتها قوات الأمن، بين أواخر 2010 وبداية 2011، ضد الفارين من العدالة. فقد كانت هذه الحملة، وفقًا لمحمد جمال باروت، “ذات طابع بوليسي، وسممت الحس بالأمن في الحياة اليومية، ووضعت المدن في مناخ الطوارئ الاحتياطي من جديد، لأنها شملت حتى الذين ارتكبوا مخالفات بسيطة، وتمت خارج القنوات القضائية في التوقيف”.

لطالما برهن النظام أنه غير قابلٍ لأن يصلَح أو يصلِح. وعلى هذا الأساس، كانت الثورة وما زالت الطريق الوحيد الممكن للتخلص منه. ولا ينبغي الاستسلام للاعتقاد المتنامي بأن الثورة انتهت، وأن إكرامها يقتضي دفنها بأسرع وقت. فحتى إذا كانت قد انتهت كحدث، إلا أنها لم تنتهِ بوصفها نتائج لهذا الحدث وما يرتبط به، كما أنها ما زالت حيةً جدًّا بوصفها قيمةً ومعنى. فإذا كان من طبيعة الحدث، بوصفه حدثًا، أن يتلاشى ويغيب، فإنه، بوصفه معنىً وقيمةً، قد يستمرُّ طويلًا، وإلى “ما لا نهاية”.

إن التمسك بقيم رواد الثورة التي جسدوها في سلوكهم وخطاباتهم، يعني استمرار الثورة من خلال استمرار قيمها، ومن خلال سعينا إلى تبنيها، نظريًّا وعلميًّا، ولتحقيق أهدافها بكل الطرق المشروعة والممكنة.

ورغم أن الثورة لم تنجح حتى الآن على الأقل في القضاء على مفهوم “سوريا-الأسد” (فقد أصبحت سوريا بوتين وخامنئي وإردوغان وترامب أيضاً وخصوصًا)، لكنها فتحت مجالًا لبزوغ “سوريا-الوطن”. وفي حين كان الخوف والأنانية اللامبالية توحد السوريين بظل سوريا الأسد، فإن الثورة سمحت ببزوغ إمكانيات وطنيةٍ جديدة تتمحور حول ضرورة التعاضد القيمي والسياسي، النظري والعملي، بين ضحايا النظام.

الثورة ليست شرطًا ضروريًّا للتخلص من تنظيم الأسد فحسب:

بل إنها بقيمها وغاياتها وتضحيات أهلها، الشرط الضروري أيضاً لأي وطنيةٍ سورية منشودة. رغم تنامي الانقسامات الإثنية والدينية والطائفية، ورغم أن وجود سوريا كوطن أو حتى كدولة أصبح موضع شكّ، إلا أن الثورة أفسحت مجالًا لوطنيةٍ سورية وليدة تتجاوز أي انتماءٍ عرقي، إثنيّ، دينيٍّ أو مذهبيٍّ لصالح انتماء قيميٍّ يتمثل في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة، التي يمكنها أن تؤسس لأيديولوجيا وطنية خاصة تتناغم مع القيم الإنسانية العامة.

إن محاولات قتل الثورة ماديًّا ومعنويًّا، باستهداف الثوار ومبادئهم وغاياتهم وتنظيماتهم وعائلاتهم ومدنهم وكل ما يمت لهم، توازت مع محاولة قتلٍ رمزية للثورة من خلال كونها كانت أو ما زالت “ثورة”. ويبدو مأساويًّا، في الوقت نفسه، إنكار ثورية هذه الثورة، إذ أن معظم الانقلابات التي جرت في سوريا وغيرها من البلاد العربية خلال العقود الماضية سميت “ثورة”، زورًا وبهتانًا، لما للاسم من دلالاتٍ إيجابية.

لا شك أن الوضع في سوريا خلال السنوات السبع الماضية أكثر تعقيدًا من إمكانية اختزال تسميته إلى اسمٍ واحد. فقد حفلت السنوات بتغيراتٍ كثيرة وبمراحل وأبعادٍ بالغة التعقيد. ولهذا يمكن فهم إمكانية و/أو ضرورة استخدام مصطلحات مثل “أزمة”، “حرب أهلية” “أحداث”، “حرب بالوكالة”، “حرب إقليمية و/أو دولية” … إلخ، لكن ذلك لا يحجب إمكانية وضرورة إطلاق اسم “ثورة” أيضاً على ما حصل ويحصل في سوريا. وليست التسمية أمرًا ثانويًّا هنا، فلكل اسمٍ دلالات معرفيةٌ وقيمية مختلفة.

فهي ثورة، لأن الثورة بالتعريف الدقيق والعام، هي رغبةٌ جماهيريّة واسعة بإحداث تغييرٍ جذريّ في بنية السلطة المستبدة، وسعيٌ عمليٌّ لتحقيق هذه الرغبة. وبمجرد الإقرار بهذا السعي وباستبداد تلك السلطة، تتبين قيمة الثورة وأحقية وجودها وتسميتها والقيم الأخلاقية المرتبطة بها.

ورغم أن المعايير الدقيقة للحرب الأهلية لا تنطبق كلياً على الأوضاع في سوريا، يصر كثيرون بحسن نيةٍ أو بسوئها على استخدام هذا المصطلح، جاهلين أو متجاهلين سمات مفهوم “الحرب الأهلية” والدلالات المعرفية والأخلاقية المختلفة التي يتضمنها، والذي يعني فيما يعنيه المساواة بين طرفي “الصراع” وحجب القيم الأخلاقية المؤسسة له، أو عدم الاكتراث بها على الأقل.

رغم السلبيات التي ارتبطت بالثورة السورية، فإنها ستظل الإيجابية الأساس والأكبر بحياة السوريين. ورغم السمة التدميرية التي ارتبطت بالثورة ونجمت بالدرجة الأولى عن القمع الوحشي لها، فإن نجاحها بتحقيق أهدافها سيبقى الشرط الضروري لأي عملية بناءٍ منشودة.

لم تكن الثورة الفرصة الوحيدة لاسترداد مواطنيتنا الملغاة وحقوقنا السياسية المسلوبة فحسب، بل هي الفرصة لاستعادة إنسانيتنا، بالمعنى القيمي والمعرفي للكلمة. فلا إنسانية لشخصٍ كرامته ممسوسة وحريته مسلوبة، والعدالة في وضعه مفقودة، وهي حال السوري في سوريا-الأسد، وهي الحال التي تبين الضرورة الأخلاقية للثورة على النظام.

الثورة أظهرت أفضل ما فينا نحن السوريين:

وفي المقابل أظهر قمع النظام والتدخلات الإقليمية والدولية أسوأ ما فينا أيضاً. وبين هذين النقيضين يدور الصراع المعنوي والمادي، ليس بين الثائرين والمؤيدين فحسب، بل داخل كل طرفٍ منهما وداخل كل فردٍ أيضاً.

ويمكن فهم المشاعر المتناقضة لكثير من السوريين المؤيدين للثورة، في ذكرى انطلاقها إذ يحتدم الصراع لديهم غالبًا ما بين التسامح والرغبة في الانتقام، بين الإعلاء من قيمة الثورة والحزن على ضحايا قمعها، بين الأمل والقنوط العاجز، بين الفرح المترقب والاكتئاب.

 

د. حسام الدين درويش. أستاذ مساعد في قسم الدراسات الشرقية / جامعة كولونيا وفي قسم الفلسفة / جامعة ديسبورغ – إسِن

اقرأ أيضاً:

بين ثورتين : واحدة مهزومة وأخرى مستحيلة

سبع سنوات على الثورة السورية: سوريا إلى أين؟ 

بالفيديو: اكتشاف العضو الأكبر بجسم الإنسان.. قد يعطي الأمل بعلاج المرض الأعند

قصائد جديدة تنال حريتها – أشرف فياض: الشاعر المنسي في أقبية الظلام