in

الربيع العربي يمتد.. اليوم السودان وغداً؟

Reuters - Khaled Abdullah

بسام العيسمي*

من يتوقع أن الربيع العربي سيحمل إلينا الثمار اليانعة دون أن نتذوق مرارة العلقم وكمٌ كبير من الوجع والألم، فهو واهم ويرسم واقعاً متخيلاً بقلم التمني ومحمولاً على جناح الرغبة.

التغيير لا يسير وفق خطٍ بياني صاعد، فقيم ومبادئ الثورة الفرنسية لم تترسخ إلّا بحلول الجمهورية الثالثة، حيث مرت بصعود وهبوط لعشرات السنوات، وكذلك الثورة الأمريكية لم تكن وردية بل مرت لسنوات بحروب أهلية في سياق سيرها نحو انتصارها. أما شعوبنا ،التي تقود حالياً ثورات الربيع العربي ، فهي ومنذ عدة قرون ترزح تحت وطأة سلطات استبدادية فاسدة تنهب الموارد، تسرق الثروات، تغيّب الحريات، تعسف بالحقوق وتعتدي على الكرامات. حتى حولت أوطاننا إلى مزارع تتحكم ببشرها وحجرها، فتحاصر العقول وتحرص على تجهيلها وتزييف ثقافتها، وتحتكر كل مفردات القوة ليسهل عليها تأبيد نفسها على ركام مجتمعات ضعيفة منهكة ومدمرة.

ما إن تفجر بركان الربيع العربي كرد فعل طبيعي على السياسات التسلطية والاستئثارية لهذه الأنظمة المتوحشة والفاسدة، حتى طفت على السطح كل تناقضاتها ونقائصها لتصارع بعضها البعض، وبرزت كل أمراض المجتمع بمختلف أنواعها وأشكالها ومستوياتها الدينية والعرقية والسياسية والفكرية والإثنية التي كانت تهرب إليها الجماعات المتشابهة لحماية نفسها وخاصيتها، بسبب فقدانها الفضاء الوطني الجامع الذي تحققه الدولة العصرية والحديثة لمجتمعاتها، مما أبقى كل هذه التناقضات راكدة تحت جدار الاستبداد وتشكل جزءاً لا يستهان به من وعي شعوبنا.

فما إن بدأت قلاع الخوف والقهر بالاهتزاز والترنَح تحت وقع صرخات الحرية، حتى استعادت كل هذه المتناقضات الحركة ونهضت من جديد، فكل منها يريد أن يرسم مشهد الثورة ومستقبلها وملامحها وفق تصوراته وقناعاته. لكون الوعي الديمقراطي حتى الآن لم يتجذّر بنيوياً كثقافة طاغية في مجتمعاتنا. لأن التأسيس لهذا الوعي لم يجر على مستوى الواقع العلمي والمعرفي.

فواقع الاستبداد الديني والسياسي المزدوج لم يوفر لشعوبنا مساحات آمنة للحوار والاشتباك السلمي، بما يساعد في تفكيك البنية الشمولية لثقافة مجتمعنا وما اختزنته ذاكرتنا من تجارب الماضي، وإرثه الثقافي المتوارث من جيل إلى جيل.

لم تستطع هذه السلطات عبر تاريخها أن تبني دولاً تنطبق عليها معيارية الدولة المعاصرة والمحايدة، والتي تكون لجميع مواطنيها وتحمي الأفراد من عسف السلطات والتغوَل على حقوقهم. وبالتالي لم تصنع فضاءات وطنية جامعة لشعوبنا التي بقيت إلى حد ما أسيرة لولاءاتها ما قبل الدولة.

لذلك رأينا كيف انتقل الصراع بيسر وسهولة في سوريا وبجزء كبير منه من السياسي إلى الديني، نتيجةً لضعف مقاومة المجتمع غير المحصن بسلاح الديمقراطية وثقافة الدولة. من معاندة هذا الانزلاق الذي سعى له النظام بعنفه وإجرامه غير المسبوق، وعن مكر للقفز وتجاوز التناقض الأساسي الذي قاد للثورة عليه، ما بين سلطة استبدادية فاسدة وضعت نفسها بديلاً عن الدولة الوطنية، فعسفت بالحقوق وغيبت الحريات وقيدت إرادة الفكر، وحوّلت البلاد إلى سجن كبير. وبين شعب انتفض لاستعادة حقوقه وصيانة كرامته بحراك سلمي حضاري ملأ الساحات والشوارع يهتف للحرية والحقوق والعدالة والديمقراطية، ودولة المواطنة.

وماسهّل له هذا الانزلاق أيضاً، عمل بعض جماعات الإسلام السياسي على أسلمة هذه الثورات، بالترافق مع تخّلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته المفترضة إزاء شعب بأكمله، تُرتكب بحقه أبشع جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، إضافةً إلى رغبة إقليمية بحرف الثورة عن مسارها خوفاً من اختراق رياح الربيع العربي لمحمياتهم وقلاعهم.

إنما أرادوا توجيه الضربة القاضية له في سوريا لتكون دماء السوريين ومعاناتهم هي الحاجز الذي سيردع شعوبهم عن الخروج عليهم. لكن ظنهم قد خاب. فها هو ربيع الحرية تفجّر من جديد في الجزائر والسودان وسينتقل إلى أماكن أخرى.

ما نراه اليوم من اختناقات وإخفاقات وصراعات ترافق مخاض هذه الثورات المحقة هي عيوب وأوساخ عقود من الاستبداد طفت على السطح تتصارع على البقاء وستنتهي إلى تدمير بعضها البعض. وليس كما يعتقد البعض بأنه تراجع وانهزام لإرادة الحق والحرية أمام أنظمة التوحش والجريمة فذلك عكس منطق التاريخ.

ثورات الشعوب المحقة وإن تأخر انتصارها فهي لا تهزم، والتغيير ليس حالة هدم وخلق آني، بل هو سيرورة تطوّرية متدرّجة تنضج مع الزمن وتترسخ في الممارسة والسلوك.
الطريق طويل وفيه الكثير من الألم، لكننا بدأنا وسنصل.

*بسام العيسمي. محامي سوري مقيم في النمسا

اقرأ/ي أيضاً:

السودان: حكم البشير ينهار، هل ستفشل ثورة عربية أخرى؟

سوريا وذكرى الثورة العظيمة

في وداع سلامة كيلة: الثورة السورية لم تُهزم، الثورة السورية سُحقت

عدد الأجانب في ألمانيا يتعدى عتبة ال 10 ملايين

“في حواليك بيت؟” دور السماسرة في أزمة السكن البرلينية