in

عن هدنة الجلادين

عثمان اليوسفي

لو شهد الزير سالم هذه الهدنة لقال: (هدنةٌ ما ابنةُ المخادع عوراءُ كنودٌ كريهةٌ كالوثاقِ) وأقول: هدنةٌ اسطوانيّة الشكل بفتيلٍ طويلٍ ومرنٍ وجاف وحشوةٍ متفجرةٍ رخيصة، هدنةٌ موجّهةٌ بالليزر وتُعبّد لعجلاتها المهابط والمدارج ثم تخرق جدار الصوت على ارتفاع قاتل وتُلقي مناشير الترهيب والترغيب: أنْ عودوا إلى حضن الوحش. هدنةٌ براداراتٍ وخرائطَ وأقمار صناعيّةٍ منذورةٍ لترصد كل حركةٍ مشبوهةٍ في الرّيف الشماليّ السوريّ، من حركة الغبار بين المتاريس وصولاً لحركة محصول القمح المصاب بالصدأ.

هدنةٌ نسبيّةٌ حذرة، تفكّر مرّتين قبل أن تضرب، ومخطئٌ من يظن أنها وُلدت ميّتة إذ إنها وُلدت متفجّرةً قابلةً للتشظّي وقادرةً على إحداث أضرارٍ في الممتلكات وأرواح الممتلكات.

هدنةٌ عنقوديّةٌ فسفوريّةٌ سامّةٌ ولها رأس مدبّب بالستيّ، في بلادي اليوم نشتَمّ الهدنة ونركض إلى الطوابق العليا، ووقفُ إطلاق النار يخيّم على الشارع فنخلع دروعنا ونبحث عن كمّامةٍ لنقطع الشارع، هدنةٌ يركنها الوغد في ساحة البلد قبل منتصف الليل ويترجّل ليمضي بهدوء طليقًا إلى ما يريد، مصفّحة معدّلة لها شهادة تصنيع ورقم محرّك، تسير بالديزل خفيفةٌ في المناورة دقيقةٌ في الإصابة.

هدنةٌ مضادةٌ للأفراد والدروع والأحلام، هدنةٌ مداها المجدي يصل كلّ عناوين الجرائد، ومداها القاتل يغطّي كلّ حارات الشّمال السوريّ، هدنةٌ حادّة تُحدث جروحًا مشرشرة، هدنةٌ لها مقذوفٌ وصاعق وعيار جف، هدنةٌ لها سدادة وشعيرة وسباطنة ومغلاق يصيبها استعصاءٌ على التطبيق والتصديق.

لهدنتهم مزاج المكر والحيلة، تُدخلنا في غربال الأمم لنُفرَز شِيَعًا بين من صدّق انكساره، ومن انخطف بحلم الحياة، لهدنتهم خواصٌ كيميائيةٌ تكشف المعتدل والمتطّرف والغلاة والعصاة، وتقيس بإبرةٍ سامّةٍ كم تبقّى لشعب سوريا من الوقت قبل أن تذوب ملامح الرّفض عن وجهه.

تهادَن الجلادون وتراهنوا: هل لفظوا هتافهم الأخير؟!. تهادَن الجلادون ليستبدلوا السياط، والضحيةُ لا تملك أكثر من عمود فقريٍّ واحد، تهادَن الغول في دمشق مع مرآته في معسكر الطلائع في الرقّة.

هدنةٌ ريثما تمنح طائرات التحالف تنظيمَ داعش قصّة شَعرٍ عصريّة، هدنةٌ ليرمّم بنكُ الأهداف رأسماله الدموي.

هدنةٌ توقّعَ رعاتها كلّ شيءٍ ما عدا علمًا بثلاث نجماتٍ حمرٍ تجمّرن فصرنَ أشهى، نجمةٌ تكوي مطار المزّة العسكريّ، ونجمةٌ تكوي قصْر محافظ الرقّة، ونجمةٌ تكوي من ينسى أنّ الشعوب لا تموت.

قرأتُ أخبار الهدنة والتهادن فارتجف قلبي، ولامستُ نهايات اغترابي لكنّ صرخةً متعبة في ساحة متعبة في معرّة النعمان أيقظتني، وجعلت ذات النادل الذي يخدم طاولات الحوار يطبخ لي قهوةً لأتفرّج وإيّاه على مظاهرات العائدين من موتهم وموتنا.

كانوا قد اختصروا البلاد لنصف قرن بشعار البعث، ثم حين حاصرهم دمنا صار شعارهم (الأسد أو نُحرق البلد) فصفّق لهم العالم على وضوحهم، ولم نجد شعارًا غير (الموت ولا المذلّة) فكَبَتَ العالم ضحكةً تهزأ من طوباويّتنا وسقف تضحياتنا الحالم، ولكن ذات الهدنة التي فُرضت علّها تعلّق المذلّة تميمة في حلوقنا، ذات الهدنة منحتنا وقتًا كافيًا لنموت ثم نهتف ببساطة: الموت ولا المذلّة، هتفنا في وجه كل الرايات السود بكلّ أشكالها منذ انتقال أوّل ضابط من مكتبه في الثكنة إلى مكتبه في رئاسة الجمهوريّة، وحتى باراك أوباما مرورًا بكلّ الآباء المؤسّسين البيض والسود والصفر.

كان يكفينا خمس دقائق من الهتاف في ريف إدلب لنطعن خسارتنا الكبرى في كفّها الخشن.

علب

كلامُ الطِّين