in

عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

د. مازن أكثم سليمان*

 (1)

عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها بمشرط السَّكِينة الجديدة، ستعلمُ الأزهار أن أوزارها الأكبر كانت في إغراء الفراشات بفساتين حريرية، وأن الرّحيق أثمر أخيراً في كأس نبيذ قدّمهُ لنفسه، العيدُ الذي أتى صاخباً كأغنية بدأتْ حياتها بتنظيف التَّلوُّث السَّمعيّ في مدينة مهدَّمة ومهجَّرة.

(2)

عندما تفرطُ الحربُ رُمّانَها سأُصرُّ أن ما ترونهُ ليس سوى بيوض ستفقس قريباً، ويحقُّ لي عندها -وفي ذروة الألم والحداد وضرائب الحلم الباهظة- أن أستحمَّ في الدّم كأنّه مسك الغزالة السّحريّة، وأن أتمرّغ عميقاً عميقاً وأنا أبكي وأضحك وأصفع الماضي وأستعيد شريط الأوثان التي عُبِدَتْ طويلاً.

(3)

العقائد مُراوِغةٌ وهي تلتحف اليوتوبيا كأنَّها بابا نويل للكبار. العقائد تُفضَحُ معَ أوّل تجعيدة تظهر في وجنة السُّلطويّ حينما يبدأ مكياجهُ بالسَّيَلان الفاضح مع كل انزياحٍ ثوري مهما موَّه حركته بخطابات غير المرئيّ.

(4)

ما يبقى في الذاكرة ليُروَى هو أكثر ما يطرده الآنيّون مما يظنونه حقلهم المحمي، فالكُلِّيُّ وداعٌ بمنزلة العناق المؤجِّج لنار الغياب المتكررة في كل لحظة رفضٍ ندخلُ -كشّافةَ صمْتٍ- في متاهاتها، ولا ننتظر بلسم مصالحة معها؛ ذلك أن الحرية في ذروة مكائدها هي علوٌّ وتباعُدٌ لا همودٌ ولا مُطابَقات.

(5)

ينبح الكلب الحارس في النقطة الوهمية الفاصلة بين الحقيقة والمجاز: ممنوع على التّغيير أن يتقدّم خطوة واحدة، لكنّ عظْمَةً غير متوقّعة قد تقلب الحسابات كلها.

(6)

بين النّقليّ والعقليّ حِرْفة خَلْق يخشاها معظم البشر. بين الاتّباع والإبداع يتعرَّى فَهْمُ الحرب أكثر. بين الموجودات تحت اليد والمنزوعة أُلفتُها تتخلّد علامات رمزية في غرابة الأمل الخفيف كعطرٍ ثائر على تقاليد العطور.

لا مراكزَ ولا هوامشَ، أو لا مدن ولا أرياف، أو لا طبقات ولا طوائف: إنَّهُ فقط فعْلُ قتْلِ الفصاحة ونسْفِ البلاغة ودفن الضّوضاء الفارغة بطيِّ سجادات الوجود اللغوي المهترئ في العالم، وتجريب كم يمكن أن يكون المستحيل وطناً ممكناً!

(7)

كلُّ تشويشٍ ننتمي إليه في بعثرةِ حبّات رُمّان الثورة والحرب، هو اختلاس المخيّلة جمالَها من غير المتجانس: نعم؛ هذه لحظة تفجير جميع الكهوف دفعة واحدة، وولادة الضوء الفلسفي العربي والعالمي من جديد انطلاقاً من هنا.

(8)

عن ماذا سأحدّثكُم غداً يا أحفاد الخراب الخالد؟

عن المجزرة المتنقّلة كساحرة شابّة تُغري في البدايات وتخون في منتصف بئر الأماني؟ أم عن الاغتيالات المنظّمة لناشطي القلب ومُحاربي أوبئة المُحرّمات؟

عن ماذا سأحدّثكُم، ولا أدري إن كنتُ من النّاجين أصلاً؟ عن العبوات الناسفة والقذائف (العشوائية والمقصودة) والغارات الحقودة حتى على جيفة الحديقة المُسالِمة؟

أم أحدّثكُم عن رحلة الحواجز حيث لحظات رعب جمع البطاقات الشخصية، و(تفييش) الكائنات المُهدَّدة بالسَّوْق إلى منحدر المصير القاتم؟

هل أحدّثكُم عن مداهمات المقاهي وصالونات الحلاقة وأندية كمال الأجسام واقتحام البيوت، أم أترك المعنى يلتبس قليلاً، فالحاجة إلى المجاز قد تفتح كُوَّةً في القهر حتى لو كان هوَ -نفسهُ- قد وقع في براثن حاجز دوريّةٍ طيّارة، وما زال رذاذ التأويل يحاول إنقاذ الحلْق من جفافه المتراكم؟

(9)

كنتُ أستلقي على حافة المُناخ الحارّ، أُداعبُ الغرائبَ الفظّة، ولا أرتوي من عامل الأمان. بلا استقرارٍ كنوابضَ صدئة تتحرّكُ بصعوبة. لكنني أحسدُ رشاقة القيلولة وهي تخترق الهواجس، وتخطف من بين يديّ التناسي هنيهةً تكسدُها الغيمةُ الآتية بكلّ أحمالها بعد قليل.

(10)

عرفتُ كلّ ما يمكن أن يعرفه مَحزون، جرّبتُ مآلات الحلم والفوضى، لمستُ بأصابعي نارَ الوقت المسعور. شاركتُ الشحّاذين حكاياهم عن تقلُّب الحياة، وعن أصولهم الكريمة، وخساراتهم الفادحة، وكيف انتهى بهم المطاف في زاوية رصيف.

قصَّتْ عليَّ بنات اللّيل ما حلَّ بهنَّ، لم يكن اغتصابهُنَّ تابو لغوي لديهنَّ، ولم يكن تلقُّف (الدفاع الوطني) لهُنَّ بعد التَّهجير وتقديمهنَّ للعمل (الرّفيع) سرّاً بحاجة إلى تبصُّر، حتى أنَّ إحداهُنَّ تحدَّثتْ عن نسبة العوائد المالية للساعة الواحدة.

تعرَّفتُ مراراً على نازحين ونازحات لم يجدْنَ سوى الحدائق كي يفترشن أرضها، أو العمارات التي ما زالت على العظْم كي يُمضوا الشتاءات القاسية فيها، وأذكر أنَّ إحداهُنَّ طلبتْ من صديقي ستائر لتعليقها على جانبي (بلوكات) النوافذ والأبواب وحتى الجدران غير المبنية بعد، لفصل أمكنة الإقامة بين العائلات، ولن أنسى ما حييت تلك التي أخذتني في إحدى الأمسيات جانباً في الطريق وقالت لي: لا أريدُ مالاً، أريدُ فقط وجبة طعام لأطفالي الموجودين في أحد الكراجات بلا مسكن.

(11)

ما من شك أننا في حمأة مقذوفات بركان عظيم قاهر، وكلما اشتعلَتْ جذوة الثورة في النَّفْس وفي انبساطات الوجود، وقَعَ الثّوريُّ في فخ أنسنة لا مثيل لها تحاصرهُ بجميع أنواع الأسئلة الأخلاقية التي لا تقبل الإرجاء: مثلاً.. ألا تذرف دموعاً _بغضّ النَّظَر عن فلسفة ما يحدث وجذريته الشرعية_ وأنتَ تفكّر بزوجات العساكر المقتولين في الحرب وقد أصبحن مع أطفالهنَّ بلا مصدر رزق، وصيداً سهلاً للاستغلال العشوائي والمُنظَّم..؟!!

(12)

مهما تقيَّأَ الثّوريُّ فكرةَ (الخلاص الفردي) نظرياً، سيبحث بحُكْم التجربة الوقائعية عن (هارموني) خاص لرتق أمراض الموسيقى اليومية لانسدالات الحرب بفعلٍ قد يعلو إلى كُلِّيّةٍ ما: كثيرةٌ هي المرّات التي تنبثق فيها فَجوةُ الانعتاق انطلاقاً من علبة حليب أطفال تُقدِّمها لأب عاجز في شارع منسيّ.

(13)

أُلاعِبُ رهاناتي في هذه الثورة/الحرب كهرَّةٍ شرسة، يجرحني مواؤها الحاد كسكّين، وتؤلمني نظْرة (التدويل) في عينيها!

(14)

كم يتقلَّبُ القلَقُ في شراييني مثل وحشٍ خرافيّ يهوى نهشَ أفكاري: هل تستحقّ أحلامكم الثّوريّة كل هذا الثّمن الجنونيّ الباهظ؟!

لم أسمحْ ولا مرّة لليقين باحتكار مسافة الظّنّ القاسي، ولأنني مع الحركية في نسبيتها أيّاً كانت، أميل على مضض إلى اختبار جواب: (نعم؛ تستحقّ)؛ لكنْ كقوّة ناعمة لتأويليتي المشاعيّة فقط: نجوتُ أنا شخصياً من ثلاث قذائف مُباشرة حتى الآن…

(15)

لم أندم على شيء، ولن أندم. لقد تلقفنا التَّحوُّلَ بأحسن ما يكون الارتماء في الانعطاف الرّحب وأغاني الحقول وأزقّة المدن التي اختنقَتْ من هول السّجون الشّاسعة.

لم أندم، ولن أندم، ما دامت أفعالُ الإنصات لنداء الوجود، والتّمايُلُ الجدليّ بين الكشف والخَلْق، تتهادى على خصور السُّطور الكيانية، وتعلن أن العاصفةَ الماكرة الآثمة الحبيبة الضريرة البصيرة الصّلعاء الطّيّبة اللئيمة القاتلة المُتفلّتة الخضراء، قد جلبَتْ أخيراً مَصْلَ الرُّعب الشّافي.

(16)

باختصار..

لم يبقَ لنا خيارٌ بعد انفتاح فَجوة الثورة التّخارُجيّة، أجمَل من أن نسابقَ نردَ المَخاض الحيويِّ المارق كأننا أفراد برَرة من أصحاب الخوذ البيضاء:

(الحُبُّ امتصَّ عبقريّتهُ

من العيون الجاحظة غرَقاً في بحار الله الواسعة

والصّداقاتُ الأصيلةُ الآيبة بعد عقودِ فراقٍ قسريّ

حفرَتْ قبورَنا الجميلةَ في القلوب

كأصُصٍ كونيّة لأزهارِ نِسْيَاقٍ حُرّ)

 

د. مازن أكثم سليمان* شاعر وناقد سوريّ

 

اقرأ أيضاً

ولادةُ الأبَدِ

شرعيّاتٌ في ميزانِ الحُلْم

الهويَّة

الحُرِّيّة

من حسناء إلى جثة حيّة: فتاة إيرانية تقضي على جمالها بمحاولات التشبه بأنجلينا جولي

الحريات الأكاديمية والقمع السياسي في الميدان الجامعي (في سورية)