in

الحرية المعلولة

سامر عساف*

 

يحفظ كثير من المثقفين عن ظهر قلب عبارات الكواكبي، في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، في أن الاستبداد والجهل متلازمان وكلاهما ينتج الآخر، والحرية هي الطريق الوحيد لتحقيق صيرورة الآدمي. وأن حصر وخنق الحريات يحرم الأفراد والمجتمعات من الاستفادة من طاقاتها الكامنة، حيث أنّ المعايير الوضعية في هذه الحالة تزدهر على حساب المعايير الطبيعية.

نحن نفترض أن الوعي البشري لم يبلغ حالة التفوق على الطبيعة في اختيار المعايير الأفضل لها، ولكن السؤال الذي يجب طرحه هنا، هل فهم منظرو الحرية ما عناه الكواكبي تمامًا؟ وهو القائل أيضًا: إن الاستبداد لغةً هو “غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”، أم أن إدراك هؤلاء يمر بغربال الخبرة المجتمعية، بما يحتوي هذا الغربال من معايير شخصية لاشعورية، دينية، أو ذكورية؟

لاشك أن النظام السياسي أحد أهم مظاهر الاستبداد وأنّ الأنظمة العربية في أغلبها، إن لم يكن كلها، استبدادية. ولكن الاستبداد في وعينا أقدم من هذه الأنظمة وأكثر عمقًا وتشعّبًا، وإنّ حصر الكفاح من أجل الحرية بإسقاط الأنظمة السياسية فقط خطأ، إن لم يكن مغالطة أيضًا. فنحن نلاحظ مثلاً أن الحركات الثورية العربية جلبت معها مستبدًا آخر، وأن صرخات الحرية التي دوّت في الشوارع والساحات “لم تكن ذات خلفية حرّة واعية صلبة”.

منذ “الجاهلية” وحتى الوقت الراهن لم تتمتّع شعوب المنطقة بالحرية، كما يروي التاريخ على الأقل، بل بقيت فئة تطغى على فئة وفردٌ يتسلّط على آخر. ولا يمكن القبول، ولو كره المتدينون، بفكرة أن الدين قد جلب الحرية، بل على العكس، جلب معه سلطةً غيبية مستبدة، لم تنل من الحريات الفردية فقط بل أيضًا من حريات جماعات تدين بأديان أخرى، يُمتهن أتباعها ويدفعون الجزية “صاغرين”، وفرضت سلطته واقعًا استبداديًا لا مجال لمقارعته، للخليفة أو “أمير المؤمنين” حق قطع الرأس، أو إغراق ضيف بلاطه بأكياس الذهب.

وجهٌ آخر للاستبداد تجلىّ في موقع المرأة المتدنّي دينيًا ومجتمعيًا، إذ بقيت المرأة تعاني استبداد الرجل متمّثلاً بالأب، الأخ، والزوج. وتكرّس هذا الاستبداد على أساس الدين و”الحرية الدينية”، بدءًا باعتبار المرأة “ضلعًا” من آدم و مرورًا بـ “الرجال قوامون على النساء” وليس انتهاءً بأنها “عورة”، فترى على سبيل المثال أحد عتاة مناضلي الحرية، ممن يفرض على زوجته وبناته الحجاب والنقاب ويمنعهن من الخروج بلا محرم!

الأمر لا ينتهي هنا، بل يتعداه إلى التركيبة السيسولوجية لمجتمع القبيلة والعشيرة، وما تعني هذه التركيبة من تراتبية هرمية للسلطة. فولي الأمر وطاعته من صلب الوعي الشرقي، ورب الأسرة و”العكيد” وغيرها من المصطلحات تشي بوعي بني على محدّدات استبدادية، بما تعنيه الكلمة سواءً في المعجم اليوناني أو العربي.

اذن، لا بدّ لمثقفينا من وضع الدين والذكورية تحت مجهر الحرية، والتصدي للمستبد الأكبر كما يفعلون مع المستبد الأصغر. فمقارعة الاستبداد السياسي ستبقى منقوصة لا تعدو نفخًا في قربة مثقوبة، ما لم يتم التصدّي للاستبداد على صعيد تركيبته الفلسفية في الوعي واللاوعي الجمعي لمجتمع العشيرة، وتبدأ الرحلة الطويلة هذه بتحرير الوعي نفسه، تحريره من جملة المخالب المجتمعية التي تحدّ من قدرته على المحاكمة الموضوعية وممارسة حرية النقد، الآلية الأولى لتجاوز القائم والراهن.

هذا يتطلب رفع القداسة عن الكثير من الحدود المتجذرة في الوعي العام، وتطوير معايير أخرى مشتقة من الفهم المتغير والمتجدد لمفهوم الحرية، المستند إلى القيم الانسانية كنتاج حضاري وليس إلى النصوص المقدسة.

 

* كاتب سوري

 

مقالات ذات صلة:

الحرية الشخصية، المادة الثانية من الدستور الألماني

في قلق “الأجنبي” بسام طيبي: لما يصعب على الأجنبي أن يكون أخلاقيًّا؟

رئيس وزراء بافاريا: المحافظون سيخسرون إذا لم تغير ميركل سياستها