in

مدوّنة المرأة: متلازمة صرنا عالباب

فرح يوسف

هناك تفصيل في شخصيتي، أو أناي، لا أعرف سبيلاً لتسميته، فحديثًا، يعتبرون كلّ شيء اضطرابًا، أو خللاً، أو متلازمةً باسم عالم ما، سنترك تحديد ماهية هذا الشيء وننتقل لوصفه.

نترك، وننتقل، في المحاضرة الأولى لمقرر منهجية البحث العلمي في جامعة حلب، قال لنا المدرّس “لا تكتبوا بالنون، ليكتب واحدكم أستنتج، ألاحظ، أرى، “منو إنتو” لتحكوا عن أنفسكم بصيغة الجمع؟”.

 

هذا المدرّس ذاته أشار إلى أن لا مانع من إيراد اسم الموقع الذي حملت منه المرجع بصيغة pdf، لا لزيادة الفائدة أو المصداقية، إنما لأنه لا يفهم مبدأ الـ pdf، كذلك كان سبب إصراره على إيراد الجداول التي أدت للأرقام الإحصائية المستخرجة بالـ spss.

ما “علينا” منه، أترون هنا ما الذي فعلته شبكات التواصل الاجتماعي؟ فتحت الباب لأمثالي لاكتشاف متلازمات، وتسميتها، والتحدث عنها لجمهور عريض.

ولتدركوا، في حال تحدثتُ بعد قليل عن أسباب جينية لهذه المتلازمة، أو نسبتها لحادث تعرضت له في صغري -كون كلّ أخطائنا تعود لصفعة تلقيناها حين كنا أطفالاً بدلاً عن حضن، ولحضن تلقيناه حين كنا بحاجة لصفعة- أنني خريجة علوم سياسية وعلاقات دولية، ليس لي بـ “كار” علم النفس، ولا في الطب.

 

لتعرفوا أن عدوّي في هذه الحياة هو البطء، أكره كل ما هو بطيء وبارد، وأحبّ أن تنجز الأشياء بأسرع وقت ممكن، وخصوصًا المهمات الروتينية السخيفة، كتنظيف المنزل، أو الوصول إلى وجهة محددة، وللتحديد: التحضّر لمغادرة المنزل.

لا أخصص للتجهّز للخروج أكثر من نصف ساعة، قد أقضي ساعتين أحدّق في بقعة على الحائط، إلا أنني أجد تخصيص أكثر من نصف ساعة لارتداء الملابس والخروج ضياعًا سخيفًا للوقت.

قد يعود هذا لكراهيتي الاستيقاظ باكرًا، ما جعلني أطوّر قدرة على النهوض من السرير صباحًا، غسل وجهي، ارتداء ملابسي، تجهيز كتبي ومستلزماتي، افتعال شجار مع أحد أفراد عائلتي، ومغادرة المنزل بما لا يتجاوز العشرين دقيقة.

إنجاز حقيقي، الزرافات مطّت رقابها لتشبع من أوراق الشجر، وأنا قلّصت مدّة وضع مساحيق التجميل لسبع دقائق لأشبع من النوم، لو عرفني داروين لكان فخورًا بي.

أجل إنني أتحدث عن داروين برفع الألقاب، نحن العلماء هكذا، لا كلفة بيننا ولا vous.

ولنعد الآن إلى المتلازمة، كلّ شيء يتمّ برتم سريع في عملية التجهيز للمغادرة، وبروتينية، لكن ما أن أصبح أمام الباب تصيبني حالة من الذعر، يتشكل لدي يقين أني نسيت شيئًا ما، وأنه سيكون سببًا لدمار حياتي، العامرة جدًا.

لا أتحقق ممّا يتحقق منه الأفراد المسؤولون، النقود والمفاتيح ووحدات الموبايل، غالبًا تكون معي أختي لتقلق على هذه الشكليات، أفتح حقيبتي بحثًا عن الكتاب، لدي ساعتان بين المحاضرات، كارثة إن نسيته، المناديل؟ جل التعقيم؟ قلم؟ هل تركت مكواة الشعر في الكهرباء؟ هل أطفأت الشمعة؟ وضوء الليد؟

هل وضعت الكحل على عين واحدة؟ هل بدّلت كنزة “البيجاما”؟ هل نسيتُ العطر؟ حقيقة إنني أنظر في المرآة وأفك أزرار السترة الشتوية لأتأكد!

لم يصدف أن وجدت وجهًا بعين مكحلة وحيدة، أو اختفاء مفاجئًا للكنزة، أو غيابًا للكثير من البارفان، كثيرًا ما غيرت ملابسي قبل الخروج بدقيقتين، أو الحذاء فقط على الأقل، لكنها ليست مشكلة.

ما المشكلة إذن؟ المشكلة أن تغادر بلادك حاملاً هذه المتلازمة، فتتحوّل لـ “متلازمة صرنا عالحدود”، انتقلت فجأة من التحقق من الخط الأسود في عيني إلى التحقق من وجود عيني، وعدّ أعضائي، هل تركت شلوًا ما خلفي؟ أخبط الأرض برجليّ لأتحقق من وجودهما، ووجود الأرض أيضًا.

أعد أصابعي أيضًا، أعد عائلتي، واحد، اثنان، ثلاثة، وأنا، إننا جميعًا هنا، عند الباب أعد حقائبي، سافرت بعدد هائل من الحقائب، حشوتها كتبًا وملابس وأوراق.

تقول أمي: هل حقًا “ستنتعين” هذا الفستان المهترئ إلى قارة أخرى؟ أجيبها: ليس مهترئًا، أريده معي.

إنه مهترئ فعلاً سحّابُه لا يعمل، استبدلت السحّاب لأوهم نفسي أنه قابل للارتداء.

تقول أيضًا: لا تقولي لي أنك ستأخذين هذا الحذاء!، سآخذه ماما.

أنت جادة باصطحاب كتب ونسخ ورقية من الصور الفوتوغرافية و”جلاءاتك” المدرسية؟ نحن لسنا مسافرين بالـ”هوب هوب” على فكرة!

الخدعة لأجعلها تكف عن هذه الملاحظات هي باتهامها بالبخل، أنت لا تريدين دفع تكلفة الوزن الزائد فقط! ينجح هذه الهجوم الدنيء في مساعدتي على جمع “كراكيبي”، وتأخير قصّ حبلنا السري الذي أعتاش به منها.

الأدراج في غرفتي خلت بالكامل، لم يحصل هذا أبدًا في حياتي، أسفل الفراش والسرير، ومستودعي أسفل الوسادة الرقيقة خلا أيضًا للمرة الأولى في حياتي كلها.

ليتني جلبت وسادتي، لم أنم ليلة واحدة بهناء مذ وصلنا، ويطيب لي أن أضع اللوم على غياب وسادتي.

تسألني مسؤولة الإقامات هل لديك أية إعاقات أو احتياجات خاصة؟

أتعرفين شعور أنك نسيتِ شيئًا ما، هذا الشعور الذي ينخر رأسك ويمنعك من الاستمتاع بيومك؟ إنه شعور لطيف، لأنه يغادرك حين تعودين إلى المنزل، أما أنا فلا عودة تبيد سرب النمل في روحي، لا عودة تبيد سرب النمل في روحنا.

إنها لن تفهم، “لا، ليس لدي احتياجات خاصة، أعرف هذا فقد أحصيت أعضائي أمام الحدود”.

اللهب والعنقاء السورية

لماذا لا نستطيع بناء الواقع وفق أفكارنا الحداثوية المعلنة؟