in

“حنّ الحديد”.. حياة تستحق الروي

dav

عبير جسومه. فرنسا

كان زوجي قد اعتقل ثلاث مرات من قبل النظام السوري منذ بدأت الثورة في آذار 2011، وحتى تاريخ مغادرتنا لسوريا في أواخر 2015. واضطررت للأسف لأن أستغل الفساد المستفحل مع كل الكوارث الأخرى في البلاد، ودفعت مبلغاً ضخماً لأنقذه من آخر فرع مخابرات اعتقل فيه. ثمّ دفعت ضعف المبلغ الأول لأخرجه من سجن عدرا المركزي، المهم أن يخرج حياً.

وبعدها رحلنا سوياً مع ابنتنا الوحيدة إلى لبنان، ثم طلبنا اللجوء في فرنسا وها نحن ذا. لا يمرّ يوم دون أن أتذكر ما مررنا به. وكالآخرين ممن أجبروا على ترك بلادهم طحنتنا سنة غربتنا الأولى. ثم بدأنا بتجاوز الأزمات واحدةً إثر الأخرى، نحفر ونبحث عن الحلول لنعاود بناء حياتنا من جديد.

طوال حياتي في سوريا كنت معلمة للغة الفرنسية، لذلك، وبشكلٍ بديهي تطوعت للعمل كمترجمة مع اللاجئين في المنطقة التي أعيش فيها، ثم تطوعت لتعليم اللغة الفرنسية لغير الفرنسيين. ثم تعليم العربية للفرنسيين. وبعد سنة من العمل التطوعي صار لابد من إيجاد عمل حقيقي لأبني حياة. والحياة بالنسبة لي هي عمل واستقرار وعائلة مثل الكثيرين.

لكنني كنت قد فقدت رغبتي بالتعليم، لعدة أسباب أهمها أني لا أستطيع التوقف عن التفكير بتلميذاتي وزميلاتي في داريا، اللواتي ما عدت أعرف شيئاً عنهن.

“أريد أن أعمل” هذا ما قلته لمكتب العمل، ولكن بغير التعليم “أريد تغيير مهنتي”. وبدأت الاقتراحات بالأعمال التي يسهل إيجاد وظائف دائمة فيها بسبب الطلب المستمر عليها في سوق العمل مثل: التنظيف، رعاية العجزة ومساعدة تمريض. ثم اقترحت الموظفة المسؤولة عني في مكتب العمل دورة تدريب لثلاث مهن مطلوبة جداً في الصناعة، وهي الصيانة، العمل على خط إنتاج في المعامل، وأعمال التعدين والحدادة من لحام وتشكيل وقص وخراطة.

لا أفقه شيئاً في هذا المجال. ثم تذكرت أبي .. كم كنت أحب أن أراقبه حين يصلح السيارة وأساعده بتركيب الدولاب وتصليح الغسالة والحنفية. وافقت على الاقتراح، و فوراً بدأت وتعلمت الكثير ولكن ما استهواني حقاً هو الحديد.

الحديد ليس مزحة، يجب أولاً قراءة المخطط واستخدام الآلات التي تساعد على تطويع المادة الصلبة، وتحويل ما على الورق إلى شيء ملموس وو. ولكن هذا ليس كل شيء.

فإذاً: نجوت من الحرب، أنقذت زوجي من ثلاثة اعتقالات، هربت مع عائلتي ولجأت، ثم تعلمت لحام الحديد، وها أنا في مواجهة المشكلة الأكبر: الحديد يحتاج إلى التركيز، التنظيم، الدقة. مفاهيم مدمرة تماماً في عقولنا، وإن وجدت يوماً فقد خربتها الحرب. وهذا في الحقيقة ما جعلني أعيد النظر في حياتي كلها.

صار الطبخ بالنسبة لي رفاهية، والأعمال المنزلية متعة، وكل اليوميات صارت في غاية البساطة والأهمية في نظري. كل شيء حولي صار عالماً جديداً بالكامل ويستحق الاكتشاف.

ثم جاء دور “كلام الناس”، قالوا الكثير عني

“مقهورة وعم تتفشش بحالها”، “تحب الظهور ولفت الأنظار”، “ياي شو حلو، كتير أوريجينال، كتير سيكسي إنك تشتغلي مع الرجال”، “ما لقيتي أصعب من هالشغل؟”.

اما الفرنسيين فقد كانت ردة فعلهم مختلفة، فبعضهم اعتبر الموضوع له علاقة بالنسوية \ فيمينيسم، والبعض الآخر اعتقد أنني أشبع جانباً ذكورياً في شخصيتي، وآخرون يتبنون رأي ماركس تماماً وخاصة متطرفي الأحزاب السياسية قالوا أننا كمهاجرين، نعتبر مجرد يدٍ عاملة، أو جيشاً احتياطياً لرأس المال يستخدمه لمواجهة احتجاجات البروليتاريا وإضراباتها في مجتمعات أوروبا الرأسمالية، للتحكم بأجورهم وإدارة الصراع الطبقي.

وكثيرين قالوا سأندم..

ولم أهتم، فالأمر أبسط بكثير ولا يستحق وقتَ من يقرأني الآن، كل هذا مجرد تجربة جديدة سأخوضها ضمن تجارب حياتي. الفرق الوحيد أنها هذه المرة تجربة طوعية وبملء إرادتي واختياري. وللمرة الأولى بدون إجبارٍ من أحد. للمرة الأولى لا يهمني ما سيحدث لاحقاً، فقد تنجح تجربتي وقد تفشل، وقد لا أتمكن من إكمالها وأعود إلى العمل التطوعي. حياتنا تجارب وكل من حولنا يجرب، كل واحد فينا يحاول أن يبدأ من جديد.

والمثير للسخرية، أنه كان لي هدف وحيد حين اخترت هذا العمل هو أن أصبح فقط مثل كل الناس، ولا يشير أحدهم إلي ويقول “ليكو هاي شو عم تساوي” ولكن في هذه التجربة قد أحقق أي شيء إلا الهدف.

مواضيع ذات صلة:

الوجه السعيد للمنفى

بين اللجوء في ألمانيا ومتطلبات العمل السياسي، حوار مع أليس مفرج

ابنتي وأنا وأنغيلا ميركل

“سفاح تويتر”.. وتسعُ ضحايا في قائمته

هل من الطبيعي أن يحتفل المسلمون بعيد الميلاد؟