in

شعرُ التطبيقات وسرديات الأجندة

اللوحة للفنان عبد الكريم مجدل البيك

رائد وحش*

تسجّل الكتابة في حياتنا اليوميّة غياباً غير مبرّرٍ، إلى درجة أنّها عالقة في فخاخ الشفوية بلا فِكاك، ولا تحضر إلا لِمَاماً في حالات يمكن حصرها في مواضيع الإنشاء المدرسية، وكتابة الطلبات إلى البلديات والوزارات، ونظراً إلى طبيعة هذا النوع القائم على صيغ مسبقة متخشبةٍ ومتكهفةٍ، قلّما نحظى بلمسة إنسانية من المكتوب.

تنتهي علاقتنا مع الكتابة بانتهاء المدرسة، مع أنّ ما كتبناه فيها لا يتعدّى مواضيع عن فصل الربيع وعيد الأم ويوم النظافة، مضافاً إليها سلسلةَ المناسبات الوطنية الكاذبة وكتاباتنا الأشدّ كذباً منها.

هناك من يكتبون في المراهقة دفاتر غرامية (لا أدري إن كانت هذه العادة لا تزال مستمرّةً مع مراهقي هذا الزمن!)، لكنّها في العموم جرائم نحويّة وإملائية تستوجب العقاب.

لطالما تساءلت كلما كنتُ في خيمة عزاء أو حفلة ميلاد، ماذا لو وضعنا دفتراً للمعزّين أو المهنئين، لكي يكتبوا فيه عن الشخص الذي اجتمعوا لأجله؟ ورغماً عني تمضي توقعاتي باتجاه المأثور دينيّاً كان أو شعبيّاً، أو أنها سوف تستعير عباراتٍ من الأغاني في أفضل الأحوال.

ثمة قطيعة معلنةٌ بين الأصابع والأقلام، تراها مثلاً في اعتبار مكتبات القرطاسية في بلادنا أنّها مخصّصةٌ للأغراض المدرسية وحسب، وكأنّ العلاقة مع الورقة والقلم شأنٌ طلابيّ!

 أفظع ما ينتجه هذا المسار هو خطوط الأيدي المريعة التي تضيّع على أصابعها لذة تذوّق الخط العربي.

شهدت في طفولتي فضيحةً هي الأغرب بين كل ما يمكن أن يصنّف في باب الفضائح، وكان عليَّ انتظار سنوات لأفهم معناها العميق وآخذ منها موقفاً. الحكاية، ببساطة أنّ أحد أبناء منطقتي قرّر إعادة تأهيل منزله، واستأذن جيرانه الأقربين ليضع أغراضه في عهدتهم ريثما تنتهي الورشات من أعمالها. الجيران الأمناء أمانةَ صديقِ المحارب الصليبي، الذي تقول نكتةٌ إنه وضع لزوجته حزام العفّة المعدنيّ، ثم قفله وأودع المفتاح لدى أقرب الأصدقاء إلى نفسه ومضى إلى الحرب المقدّسة، وقبل أن يبلغ آخر القرية كان صديقه يصرخ وراءه: “توقّف.. أعطيتني المفتاح الخطأ”؛ هؤلاء الجيران عثروا على لُقيةٍ من نوع خاصّ، دفتر سجّل فيه الجارّ أحداثاً شهدتها المنطقة: حادث سير مروّع، عرسٌ استثنائيّ، عاشقة أحرقتْ نفسها بالزّيت المغلي.. إلخ.

أصبح الدفتر حدثاً تاريخيّاً شغل الجميع، من يقرؤونه يضحكون، ومن لا يجيدون القراءة ويتلقونه بالاستماع يضحكون. أما الطفل الذي كنتُهُ فلم يجد نفسه إلا في نسخة من مسلسل الكرتون “توم وجيري”، يقرأ الجميع من حوله كتاباً ويضحكون، لكنّه، أو لكنّني– للدقة- فهمتُ بعد سنواتٍ أنّهم لم يسخروا من مضمون الدفتر، فتلك أشياء يعرفونها كما يعرفها كاتبها، بل إن السخرية تطال فكرة الكتابة نفسها.

أسوأ ما حدث هو اللقب الذي حصلتْ عليه تلك العائلة؛ “بيت المؤرّخ”.

على المقلب الآخر، يحضر المكتوب بقوّةٍ في الحياة اليومية في الغرب، ولن أسوق ما سأسوقه من أمثلةٍ من باب عقد مقارنة إنسانية بسيطة، مع الإشارة إلى أنّ كثيراً من خيارات الغربيين الأدبيّة قلما تنجو من فخاخ القراءة الاستهلاكية وما يرتبط بها من آليات تسويقيّة.

ترى الفرد امرأة كان أم رجلاً، لديه مراسلات بريدية دائمة، بعضها يعتمد الرسالة التقليدية وبعضها الآخر يعتمد البطاقات البريدية. في الأولى يفيض الإنسان كتابة تاركاً نفسه تتدفّق على الورق وفي الثانية يعمد إلى الكثافة اللغوية، فيكتب جملة محورية تاركاً كثيراً من المعنى لكي تكمله الصورة كشريك ورديف.

كذلك تسجّل الأجندة السنوية التي تُستعمل لتدوين المواعيد والالتزامات حضورها، وتلعب دورها على صعيد تنسيق العمل وتنظيمه. لا تتخلّف عن ذلك قائمة التسوّق، التي تظلّ معلقةً على باب الثلّاجة تضاف إليها بنود المواد الجديدة التي يحتاجها البيت، إلى أن يحين شراؤها. من المؤسف أن يتذكّر المرء أناساً، في زمن الثورة التكنولوجية، يخطئون في كتابة مفردات مثل بطاطا وبندورة.

فوق هذا وذاك، تأتي كتابة اليوميات لتدوّن مشاعر الإنسان ومواقفه وآراءه تجاه نفسه ومن يحيطون به. الجميل في الأمر أن هذا النهج يجعل الحياة الفردية مدوّنةً ومرويةً بلسان صاحبها، على مدار عقود حياته، وكأنها لقاء دائم مع الذات، واكتشاف متجدّد لها.

عطفاً على ذلك، يمكن النظر اليوم إلى إصرار شركات صناعة الهاتف الذكي على وضع برامج لـ”الملاحظات”، وأخرى للأجندة، في مختلف منتجاتها، يأتي الأمر تطويراً لفكرة الدفتر اليومي الملازم للكائن الإنساني، ونقل للكتابة من حالة الاعتكاف وقت الفراغ على المكتب، إلى صناعة دفتر إلكتروني يستطيع العمل عليه طوال الوقت، في وسائل المواصلات، وفي غرف الانتظار، وحتى في دورات المياه.

الكتابة الغرضية بهذه الوفرة تصيب الإنسان بخوفٍ، لشدّ ما يحتاج إليه، من الكتابة الفنية، لكونه بحكم ممارسة الأولى يعرف حدودها وحدوده.

بهذا المعنى، سيكون طبيعياً أنّ تقدّم الكتابة القادمة من القلّة أوهاماً لا حصر لها، فتعتبر موقفاً يمكن أن يذهب إلى دفتر اليوميات إنجازاً أدبياً غير مسبوق.

ألم تتحوّل الأجندة وقوائم التسوّق والرسائل الإلكترونية إلى أدب عندنا؟

 أمعنوا النظر قليلاً وسوف تضعون كثيراً من القصائد تحت بند شعر التطبيقات (Applications)، وقصصاً، أو ربما روايات، تحت بند “سرد الأجندة”.

تلك مصائب تولد من الاندهاش الآنيّ أثناء التفاعل مع التكنولوجيا، وبالإمكان دراستها وإعطاؤها حجمها ومعناها، ضمن السياق الذي ولدت فيه، باستثناءات كثيرة طبعاً تخصّ مواهب لا تكف عن التوالد، تستفيد من هذه المعيطات لتطوّعها أدبيّاً، فيما النوع الذي أتحدّث عنه، وأقصده بالتحديد، يفعل العكس، حيث تطوّعه التكنولوجيا، فيكتب وكأن اكتشاف اللغة حدثَ على يديه خلال قرعهما كيبورد الموبايل.

رائد وحش. شاعر فلسطيني سوري مقيم في ألمانيا

 

اقرأ أيضاً

رائد وحش: لا يعبر الماء مرّتين إلّا الغرقى!

كلمات في حقيبة اليد، أربعة أدباء في مهرجان الشعر العالمي في برلين

مهرجان القصيدة السورية الأول في ألمانيا

كيف تكتب نصاً لافتاً

بالفيديو: رمضان والعمل في ألمانيا: هل يتساهل مدراء العمل مع الموظفين الصائمين ؟

هل الحجاب هوية إسلامية حقاً؟ في أصل الحجاب ومنشأه وتفسيراته