in

لا بكيني ولا بوركيني.. إنه جسدي!

FETHI BELAID/AFP/Getty Images

تستيقظ سيدة، تجلس قبالة التلفزيون، تشرب قهوتها، يطالعها برنامج ديني عن ضرورة “تسترها” كي لا يغضب الله ورجاله على الأرض، تغلقه سريعًا وتفتح الجريدة لتجد علمانيًا يحتل صفحة كاملة لصحيفة كبرى يتحدث فيها عن ضرورة “تشليحها” حمايةً للقيم العلمانية والإنسانية الكبرى، لا تملك مقابل هذا سوى أن تتحسس جسدها عل شعورها به يؤكد ملكيتها له.

يمكننا القول إنه سيناريو عاشته وتعيشه النساء على هذا الكوكب مع فروق طفيفة، مازال لباس المرأة والتعامل مع جسدها إشكالية كبرى مطروحة دومًا للصد والرد، وقد شكل هذا الموضوع عبر سنوات طويلة قضية للحقوقيين ومشرعي القوانين والصحافة. ولطالما ثار جدل حول فرض أزياء مثيرة على النساء في أماكن العمل أو فرض لباس رسمي يقتضي ارتداء الكعب العالي بشكل اجباري، الأمر الذي يسبب مشاكل صحية للنساء، وكذلك طريقة تناول الإعلانات لجسد المرأة دائما بصفته جسدًا مهانًا الأمر الذي يجده البعض مبالغة من النسويات ومناصري حقوق المرأة بينما يحدث هذا أثره في المجتمع بعمق لا يراه هؤلاء.

نجد هذا الهوس بتتبع موضة الأجساد، عمليات التجميل، مشكلات المراهقات مع أجسادهن، أزمات الثقة بالنفس التي تعيشها النساء قي عالم يفرض عليهن ضغطًا هائلا حول “الجمال” و”الأنوثة” و”الموضة”، لابد أنه بالطبع للمرأة ككل إنسان حرية أن تتعامل معه كما يحلو لها طالما أنه أمرٌ يخصها، وبالتالي لا بد من الاحترام لكل خياراتها به بما في ذلك خيارها بتجميله أو العناية به، لكن عندما يتحول الأمر لحمّى تضر بأجساد الناس من ناحية وتحطم ذواتهم بسبب عدم مطابقة معايير مصممي الموضة للجمال، أن يفرض على النساء أزياء غير مريحة في العمل وكأن أجسادهن جزء من مهاراتن المهنية!! أن تجد أماكن العمل تقتصر على توظيف غير المحجبات أو العكس في مجتمعنا، أن تطالب النساء بأعباء إضافية للحفاظ على “إنوثتهن” التي أصبحت مرادفًا مشوهًا تمامًا عن المعنى المفترض للكلمة وللمفهوم، أن تصبح الأنوثة منحة قد تصادر في حال خروج النساء بأشكالهن أو سلوكهن أو اهتماماتهن عن مزاج المجتمع أو البيئة المحيطة، فإن هذه أضرار وقيود إضافية على النساء من المشروع جدًا الحديث عنها حيث أنها تؤثر على حياة وحرية النساء مباشرة.

لقد فتح الأولمبياد مؤخرًا هذا الأمر بطريقة أخرى، لقد شكل لباس رياضيات الأولمبياد الأخير الجزء الأكبر من مما تناولته وسائل الإعلام حول الحدث، لقد كان لوجود نساء من دول تفرض قيودًا كبيرة على حياة وحرية النساء كالسعودية أثرًا كبيرًا حيث استوقف الأمر معظم المهتمين بالشؤون الحقوقية والنسوية من حيث أنه انتصار صغير للنساء ما كان ليحصل لولا انتقادات للسعودية وفرض من اللجنة الأولمبية الدورة السابقة، ما اعتبر إنجازًا لم يره المجتمع العربي، كذلك فقد كان النقاش هناك عن شرعية ممارسة النساء للرياضة وعن لباسهن. استنكر هذا المجتمع ارتداء سبّاحة سورية بعمل تسعة عشر عامًا للباس السباحة “المكشوف”، الفتاة التي تعامل معها العالم كملهمة بعد أن أنقذت حياة عشرات الناس على قارب مطاطي متجه من تركيا لليونان في طريق الهرب إلى أوروبا.

مازال المجتمع العربي مشغولاً بهذا الجدل دون أي نقاش موضوعي عن أداء أو إنجازات هؤلاء السيدات، فالذي استنكر أن يسرى مارديني سافرة لم أره يدعم رياضية محجبة، وأعتقد أن الأمر ليس متعلقًا فعلا باللباس بقدر أنه شعور بالتهديد من إنجاز هولاء السيدات، والذي قد يكون مشاركتهن بحد ذاتها، أول أميركية محجبة في هذا الأولمبياد، وجدل كبير عن فرض بعض اللجان الأولمبية للباس مغرٍ على الرياضيات دون ترك خيار أكبر لهن لارتداء البكيني من عدمه مثلا، الأمر الذي يقصي كثيرًا من النساء عن بعض الرياضات. بالمقابل نجد موقفًا “علمانيًا” عربيًا لا يقل تخشبًا ومحدودية، فالبعض الأخر ذهب إلى انتقاد مشاركة محجبات ونساء بلباس مخالف للملابس الرياضية المعروفة لبعض الرياضات رغم تساهل اللجان الناظمة لها من أجل ضمان مشاركة النساء من جميع الثقافات والبلدان، حيث أن التنوع والرياضة كقاسم بشري مشترك يجب أن يكونا رسالة هذه المسابقة، البعض المحموم بالحديث عن الحقوق والحريات لم يجد بمشاركة سعودية أمرًا جيدا على مستوى الحقوق والحريات طالما أنها محجبة، وهو يفضل أن تلبس هؤلاء الرياضيات البكيني أو ألّا يشاركن من البداية، في بلدٍ طلب تعهدًا من النساء بعدم ممارسة هذه الرياضات على المستوى الوطني مثلا ومرافقة محرم رجل لكل مشاركة.

انتقادات وجهت أيضًا لوسائل الإعلام الغربية التي ركزت في أسئلتها ومقابلاتها مع النساء على أشكالهن ولباسهن أكثر من الرياضة بحد ذاتها، هذا الأمر بازدواجيته ذاتها تطابق مع معضلة بكيني أم بوركيني، بعد أن فرضت فرنسا قيودًا على ارتداء لباس السباحة الإسلامي هذا على الشواطئ العامة، وتداولت وسائل الاعلام صورا للشرطة الفرنسية تفرض على سيدة خلع هذا الزي أو مغادرة المكان فورا، لكن دوائر هذا الحدث ستكون الجدل الكلاسيكي بين أحقية المجتمع العلماني الغربي بفرض مزاجه العام على كل أفراده وبين الاحقية للمسلمين بارتداء أزياء شرعية، بل دأب رجال الدين على خلق مظلومية على اكتاف حريات النساء وتعرضهن لتمييز في حال ارتداء الحجاب على الدوام، بينما كان للطرف “العلماني” رأيًا يتسق وفكرة التبرير لأي اعتداء على الحريات أو الحقوق -من قبل بلدان توصف بالمتقدمة بهذه الشؤون- والتنكر لمفاهيم الحريات طالما أن الضحية لقرار كهذا متدينة، مع أن فرنسا عادت لتجميد القانون بعد ما أثاره من جدل، وبررت ذلك بأن القانون قد يكون غير متوافق مع حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد.

لا أنكر أن مسألة الحجاب والتشكيك بحقيقة حرية الاختيار والإرادة للنساء في مجتمعات متزمتة وفي بيئات تحجب الفتيات بأعمار صغيرة وتشن حروبًا على أي سيدة قررت خلع حجابها أمر حقيقي، لكن هذا الأمر المعقد الذي يحتاج لبحث بحد ذاته، يتوافق مثلاً -برأيي- مع أن يكون هناك قانونٌ يفرض عدم تحجيب الطفلات قبل سن الرشد القانوني، أو عدم تعريض الأطفال لاراء دينية شديدة وتوثيق ديانتهم فقط بعد هذا العمر كخيار حرٍ واعٍ حفاظًا على حقوق الطفل والنساء خصوصًا فيما بعد. لكن هذا الطرح يبدو رومنسيًا للغاية في واقع صعب فعلا، وفي مجتمع تفرض فيه السلطة الدينية ومعارضتها كذلك قيودًا كبيرة على أجساد وحريات النساء.

يمكنني أن أتفهم مثلا قانونًا لمنع النقاب بوصفه أمرًا قد يتعلق بالأمن العام، وكذلك أتفهم أن النساء المنقبات في أوروبا مثلا يتعرضن لضغوط مزدوجة ويصبح الأمر حلقة مفرغة من تضارب حرية المعتقد مع حدود حرية الفرد لصالح الكل، ولكن الواقع يفرض أمرًا أن المحجبات يشكلن جزء من المجتمعات، والأغلبية في مجتمعاتنا، وسن قوانين مجحفة بحقهن تسيء لسير حياتهن وفعاليتهن في المجتمع وإنتاجيتهن، والأهم حقوقهن كمالكات لأجسادهن وحريتهن بها بما لا يضر الآخرين، ليس بالأمر المقبول أو العادل.

يصبح من المخزي فعلا أن بديهية مثل: “كل امرأة  حرة بجسدها وليس لك أن تطالب بكشفه أو ستره، ليس لك أن تشن حربًا ضده أو عنه” تتحول لمعجزة صعبة التحقيق.

الهروب الى الحياة

لماذا يتزايد عدد النباتيين في ألمانيا؟