in

الحنين لسوريا الوطن، أم الحنين لوطنٍ مشتهى؟

مصطفى علوش*

الوطن:

لكثرة ما استهلكه الإعلام، لاسيما إعلام الطغاة، صار معناه مرادفاً للقهر والرعب، بينما هو العكس، فهو ضحكة بعيدة في القلب، صداقة مع بشر أحببناهم، وأيضاً مساحة أمان وعدل وحرية افتقدها السوريون منذ عهود طويلة.

الوطن والحنين إليه، يأتينا في المنامات، هنا في بلاد الأمان والحريات، ربما على شكل اعتقال أو حكايات قاسية عشناها، يتسلل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مرة من خلال الأغاني التي نضع روابطها على صفحاتنا الفيسبوكية، ومرة من خلال خيط الروح  الحزين.

الحنين للوطن حالة تيه

السيدة نوال الحلح، تحمل شهادة دكتوراة في الأدب العربي من جامعة دمشق، لكن ظروف الحرب والرعب والخوف في سوريا جعلتها لاجئة في باريس، حيث بدأت ومنذ عامين دراسة اللغة الفرنسية، كان السؤال عن الحنين واسعاً متروكاً على فضائه البعيد  فكتبت لأبواب شهادتها الجارحة تقول:

“الحنين هو انتقاص الكمال بالانفصال والانقطاع عن سابق مكتمل الحضور في النفس. ولكن هذا الاكتمال المتخيل لا يكون حقيقةً إلا في مخيلتنا التي يزينها البعد عن المكان المُفْتَقَد، والذي هو موضوع الحنين ومستقره. وفي حنين السوري بعدٌ آخر من النقص هو المكان الذي يفتقدُ حضورَنا، فنحن ندرك أن مكاننا الأول\بلدنا قد افتقدَنا (نقِصَنا) في لحظة مصيرية من تاريخه؛ حيث كان يمكن أن نكون فاعلين فيه ومؤثرين في صيرورته. ولكن الواقع المحبط والعجز عن إمكانية الفعل والمشاركة في صياغة هذه الصيرورة يضيف ثقلاً أكبر لفكرة الحنين، فتغدو الفكرة بحد ذاتها مكبّلة بالذنْب.

حنين السوري إلى سوريته هو مجموعة مشاعر متداخلة لأنها بمجموعها ناتجةٌ عن إقصاءٍ قسري سببه الخوف والقهر وعدم الرضى عن مجرى الأحداث الذي خلَّفَنَا وراءه ناقمين مُبعدين. الحنين ابتدأ هناك داخل الوطن المشتَهى والمستحيل التحقق واقعياً، أما الحنين هنا بعد الاغتراب فهو حنينٌ مضاعف وثقيل يترك فراغه في الروح بحيث تستكشف هنا وبعيداً عن المكان أقصى حالات عدم اكتمالها، بل وتشوهها الذي يسببه هذا الفراغ. حنين السوري في بلاد المنفى الضيقة\الواسعة هو حالة تيه مرتبطٍ أولاً وآخراً بعجزٍ عن الفعل وعن الاكتمال في المكانين .. هنا وهناك.

الحنين والسفرجل

الصحفي علي الحسن عمل لسنوات في صحيفة الوطن الخاصة السورية كمحرر في الشأن الثقافي، ترك كل شيء في وطنٍ أحبّه، وآثر الرحيل إلى النمسا، يعيش حالياً في مدينة “ليزا” النمساوية، أيضاً كتب عن الحنين بطريقته:

“لستُ مصاباً بهذا الداء، الذي اسمه “الحنين إلى الوطن” وسأحاول ألا أقع تحت وطأته حين يداهمني على شكل أغنية، موّال، نكتة، رائحة صابون الغار، أو صورة في ألبوم، مداهمة تجمّل لي الفكرة ـ الوهم-، ذلك أن ما يُسمّى “الوطن” ولسنوات طويلة هدّ قلوباً وعمّر أخرى من حجر، ومارس قسوةً لا يمكن احتمالها.

إنني الآسف والحزين الذي يقول: إنه لا يتذكر إلا الطعنات، والخيبات، وتلف الأعصاب في كل مكان، عدا عن إنعدام أبسط الحقوق، وانتصاب الجحيم والموت الذين كنت أصادفهما كغيري بكل مكان، وكاد كل يوم أن يصافحني، كما غيري.

كتب كافكا “كيف لمرء أن يقدر حتى على مغادرة قريته؟” بعدها بسنوات سيسرج حصانه ويرحل، وليس مهماً إلى أين؟ فقط يرحل ويبتعد، ومثله فعل الكثيرون، غادروا بلدانهم، لعدم القدرة على احتمال الجحيم، أوالموت الكبير على حد تعبير ريلكه، كأن تكون  نمراً في قفص وعينك على قضبان الحديد، فلا تستطيع أن تفلها، ولا تستطيع كنمر أن تفعل شيئاً، يكون العجز تاماً ومؤلماً، فترتدّ إلى ذاتك في معاناة تتضاعف، وتزداد مع الوقت، إنه إذاً الموت البطيء الذي كان. بهذا المعنى لم أكن أريد لنمر ريلكة أن يموت تماماً داخلي، أو لنمر زكريا تامر أن يروّض إلى درجة المواء.

عندما يهاجمني الحنين، أتذكر فقط (السفرجل)، فيأتي الحنين بأشواك تخزّ الروح، وهذا لا يعني أن البقاء هنا مفروشٌ بالورود.

أعرف أنني لستُ مصاباً بهذا الداء، من خلال الكوابيس التي تقتحمني إلى اليوم، بأنني لازلتُ هناك، وأنني أبحث عن (الهوية الشخصية) لإبرازها على الحواجز؛ (الهوية) التي تُقرأ من (ظهرها): “من أين أنت يا علي الحسن؟ لأفتح عيني أنني هنا فأتنفس الصعداء!.

أنا مصابٌ بداءٍ آخر مزمن اسمه الحنين لـ “وطن مُشتهى”.

الوطن وجعي الجميل

الروائية والفنانة التشكيلية لبنى ياسين، تعيش في مدينة “خرونينجن” الهولندية، تكتب عن الحنين للوطن، فتقول: “الوطن وجعي الجميل، أراه في كل شارعٍ أمشيه، يعبرني كل يوم ألف مرة، يقتحمني مع صوت فيروز صباحاً، لأشمّ رائحة الياسمين عن بعد، وأذوب شوقاً.

دمشق التي تسكنني دائماً بحاراتها، وياسمينها، وكلمة “صباحو” من الجيران. دمشق بارعةٌ بصيد القلوب ، كما يقول كل من زارها أوروبياً كان أم عربياً! والحنين للوطن ليس شعوراً يخصني وحدي، بل أراهن من خلال ما أسمعه وأراه، أن كل سوري حمل معه سوريا في قلبه، وأنّ الحنين يفتته كل يوم ألف مرة، حماك الله يا سوريا وقاتل من يقاتل الحياة فيك”.

ولكن من ينتبه للروح وحنينها في زمن حرق الجثث.

مصطفى علوش. صحفي سوري مقيم في ألمانيا

 

مواضيع ذات صلة:

شيءٌ من فيض الجمال… هنا حين ينشد “رولاند باوه” للسلام

رواية لالين … “أمشاج من اللاهوت والحب والسياسة والحرب”

أنا والكلاب والسياسة

بورتريه: مهاجرون في ألمانيا – سناء مكركر شڤيبرت

هل سينجح تحالف جامايكا؟