in

مدونة المرأة: شوكولا لهبوط سكر الروح

فرح يوسف.

 هناك “دراسة” تقول إنّ غسل الأطباق يساعد على تهدئة الأعصاب، ولطالما شككت بصدقية هذا النوع من الدراسات المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ونظرًا لارتفاع أكوام الأطباق التي غسلتها وتناسبها طردًا مع مستويات القلق والتوتر لديّ؛ يمكنني أن أجزم بأنّ هذه الدراسة بالذات مشكوك بصدقيتها.

على غير العادة أختي كانت تغسل الأطباق يومها، إنّها ممنوعة من هذه المهمة نظرًا للشحّ الشديد في المياه، ومهما اقتصدت -هي المناصرة للبيئة- لا يكفي اقتصادها، كانت تدندن أغنية ما، وتغسل طبقًا بهدوء، دخلت المطبخ حدقت بها قليلاً، وبباب المطبخ قليلاً، وبغطاء “علبة الأبجور” الخشبي الثقيل، قلت لها “اتركي من يدك وابتعدي” ولسبب ما امتثلت دون أن تسألني لماذا، وهذا لا يشبه أختي أبدًا.

ولم نكن قد وصلنا غرفتنا بعد حين سمعنا الصوت وغابت الرؤية، ماما!

لو أنّني بكامل وعيي لحظتها لجلست مكاني عمرًا كاملاً قبل أن أجرؤ على البحث عن أمي، أفضل الاحتمالات التي تقفز إلى الذهن في مثل هذه الأوقات يصنّف ككارثة، خاصةً حين يتعلق الأمر بفجيعة لو وقعت لما انفرد لك بعدها ظهر، لكنّ قوة ما تمسكك من يدك وتسوقك، كلّ الامتنان للّاوعي الذي يسيطر على الموقف.

نصل إليها سريعًا، إنها جالسة وسماعة الهاتف في يدها، “نحن بخير” تُجيب صديقتها، هادئة أكثر من اللازم هي، حقًّا إن أمي صخرة حقيقية.

تتأخر لتدرك أن أمك ليست الإنسانة التي تعرفها بالفعل، تعتقد أن “الفوبيا” كلمة غير واردة في قاموسها، لكنها في أكثر لحظات رعبها تمثّل القوة لأن زوجًا من العيون ينظر إليها برعب وينتظر أن تبتسم ليكون كل شيء بخير، تحرص أمي على أن يكون كلّ شيء بخير، حتى حين تكون أبعد ما يكون عن الخير، صخرة حقيقية أقول لك.

والآن نحن جميعًا هنا، أختي أمي أنا، لسنا بخير، لكننا هنا، بإمكاننا أن نفتح رئاتنا للهواء، وننظر حولنا ونسأل عن الذي حصل، لا يمكننا أن نستغرق في السؤال، لا يصحّ أن نترك الوعي يسيطر علينا، تحتاج الصدمة، تحتاج ألّا تستوعب مؤقتًا، فللاستيعاب تبعات من الأفضل تأخيرها.

عاصفة من الغبار في المنزل وطرق عنيف على الباب المخلوع، وشاب مذعور يخبرني أن بنات الجيران عالقات في المنزل ويصرخن، أصعد الدرجات بسرعة وأدخل المنزل، العاصفة ذاتها في منزلهم، إنها المرة الأولى التي أدخل بيتهم وتدلّني الصرخات إلى حيث هنّ، أعدّهنّ وأتذكر أنني لا أعرف عددهنّ.

يرتدين أردية الصلاة على عجالة، الملابس التي نرتديها في منازلنا أيام الصيف في ظلّ انعدام وسائل التبريد لا تصلح كثيرًا للنزوح، أنتبه لهذه الحقيقة متأخرة بعض الشيء، وأتحوّل لنسخة مصغرة من أمي، لا أبكي لا أصرخ، وأهدّئ جمع الفتيات الصغيرات المرتجفات.

الغبار عدوّك الأول هنا، عليك أن تدرس المسافة بين فتح عينيك وإغلاقهما، إن أغلقتهما طويلاً خاطرت بالتعثر و بألا تنفتحا مجددًا، أما إن ثبتّ جفنيك في حالة الصدمة تحوّلت كرتا عينيك إلى صحراء صغيرة مؤلمة وعديمة النفع، وعليك أيضًا أن تقتصد بأنفاسك، عرفت هذا بعد ليلة كاملة قضيتها تطرد الغبار من صدرك بالسعال، ولم يكن هذا أمرًا سيئًا كانت حجتك للبكاء.

ينزح سكّان البناء إلى منزلنا، ويتحول منزلنا لملجأ صغير باعتباره أخفض الطوابق، وجوه هربت منها الدماء وملابس مغبرة والكثير من الأحذية البلاستيكية، نسند الباب بكرسي لنردّ شيئًا ما، لا أدري ما هو، هو العطش الدائم للستر، أمي “تؤهل وتسهّل” بالموجودين، تأمرني بإعداد القهوة وإحضار شوكولا “فالرعبة تخفض سكّر الدم”.

حسنًا، هل أنت جادّة؟ قهوة؟ وشوكولا؟

كاد يهبط المنزل فوق رؤوسنا وكل ما يهمك هو راحة “الزائرين”؟ أي قلب هذا الذي تملكينه؟ ويجرّدك من أية نوبة ذعر بشرية ويجعلك أمًّا لكل من يحتاج صخرة؟

أنا لست مثلها، ولا أشعر برغبة بإكرام الضيف في الحقيقة، ولا أريد أن أستذكر معلوماتي في الإغاثة النفسية، أريد أن أجلس على عتبة الباب الذي لا يستر نفسه وأنوح وأعدّد، كشخصية في مسلسل مصريّ قديم، أريد أن أركب السيارة وأقود بتهور إلى اللامكان، أريد أن أذهب إلى الحاجز القريب وأصرخ بعناصره، أريد أن أجلس صامتة بالكامل، لا أنطق ويتحلّق حولي عدد من الرؤوس تطالبني بشرب الماء وتصفعني برعب، أفسدتنا هذه الأفلام والمسلسلات، الصدمة والرعب والحزن يأخذون أشكالاً مختلفة كثيرًا في الواقع.

لا أجادلها، أرتدي قميصًا خفيفًا وأمضي لإعداد القهوة، طرق جديد على الباب، إنه ابن الجيران كان واقفا ينتظر والده حين نزل صاروخ أمامه، يرتدي “جلابية” بيضاء إذ كان في درس التجويد، إنهً أشقر وعادة ما يكون وجهه ورديًا، اليوم لا ألوان فيه وفي عينيه اختبأ كلّ ذعر البشر.

“فارت” مني القهوة وأنا أتأمله، طرق جديد على الباب الذي انفتح مرحّبًا بمفرده، إنهم جيراننا، كان الباب قد انغلق عليهم، وأثناء محاولات كسره تسبّب بكدمة في جبهة الجارة، لا يهمّ أنهم لم يفهموا على مدار ثمانية أعوام ضرورة استئذاننا قبل صبّ المياه على حديقتنا، وأن بيتنا ليس منفضة سجائر بحجم عائلي، الخلافات لا أهمية لها ودائمًا ستؤدّى واجبات الضيافة -والإغاثة- في منزل أمي.

لاحقًا باتت هذه مادة للتندر، كل هذا الدمار النفسي والمادي ولا أضرار يُحكى عنها عند السؤال عن الأضرار البشرية سوى كدمة الجارة.

وكما يحدث في الأفلام تبدأ الأصوات بالتلاشي، وينصرف كلّ إلى حيث نزح، ونجلس في البيت الفارغ، ما زال صوت ابنة الجيران وهي تنوح “بدي أسافر، بدي أسافر” في أذني، وصون أمها وهي تنهرها لتسكت أيضًا، ما زلت أشعر بالصغيرة تضغط على خاصرتي وتحضنني كآخر مصدر للأمان.

ومن جديد حملة التنظيف، لم يعد هناك أية نوافذ زجاجية سليمة، أمسك بهاتفي وأتصل بآخر أصدقائي الصامدين في حلب بعد التخرج، أصرخ في وجهه أن عليه السفر بأسرع وقت ممكن، لا يفهم شيئًا ولا يهمني أن يفهم.

كتبي مكسوّة بالغبار، أكره الغبار والبارود، وأستشرس حين أراها على هذا الحال، أفرغ الرفوف كالممسوسة، وأجلس على الأرض أمام المكتبة الفارغة، أصرخ بها كصفعة أمّ لطفلها الذي وجدته بخير بعد أن ابتلعه الزحام، أفرش الكتب وأمسحها واحدًا واحدًا، أصفّها على رفوفها وأعاتبها هذه المرة كأمّ عاد ابنها بملابس متسخة، لماذا لا تترك الحرب مكتبتي وشأنها؟

قد تصحّ هذه الدراسة التي تحدثوا عنها في حالتنا، إن التنظيف والتصليحات تُلهيك فعلاً عن التفكير، وتجد نفسك حين تفرغ أكثر تعبًا من أن تفكّر أو تحزن أو تغضب، تريد للماء الساخن أن يفكّ فقرات ظهرك ويغسل سؤالات ماذا بعد، تريد فقط أن تنام ويطلع الصباح على يوم جديد لم تقع فيه الكارثة بعد.

سأهاجر بعدها بعام أو أكثر، سأحمل معي وجه ابن الجيران والصوت النائح “بدي أسافر، بدي أسافر”، سأحمل دهشتي من تذكّر طفلة في عامها الثالث عشر لرداء الصلاة في هذا الظرف، وسأترك مكتبتي، سأبكي وأنا أصفّها في منزل لا تعرفه ولا تعرف غباره، ولن يهمّ أن أبكي.

وفي غربتي سأفكر ألا يستحقّ انخفاض سكّر الروح فنجان قهوة وقطعة شوكولا من أمي؟

 

مواد من مدونة المرأة للكاتبة:

مدونة المرأة: جدران لا تسند
مدوّنة المرأة: متلازمة صرنا عالباب

ولادةُ الأبَدِ

“الثقافة الألمانية الرائدة”، تساؤلات حول خطة النقاط العشر لوزير الداخلية الألماني