in

قصة قصيرة: علاقة ورقية…

الحديث عن المهاجرين القدماء
العمل الفني: محمد خياطة
وافي بيرم. كاتب سوري مقيم في تركيا

ليست المرة الأولى التي تزور فيها البار ، وهي ليست من رواد البارات الباحثات عن علاقات عابرة، أو متعة مؤقتة، ربما تعتبرها بينها وبين نفسها هروباً من ضوء النهار المزعج، من صمت صخب العمل، من همس الأصوات المزعج، مع أنها تعرف تماماً أنها محط الأنظار، إن كان في هذا البار أو في غيره من الأماكن التي ترتادها، سارقة الأضواء بدخولها البارد، ونظرتها الميتة، أو كما يصفونها بالساحرة اللئيمة.

لم تكن من الفتيات اللواتي يجلسن في الزوايا المعتمة، إنما هي من كانت تفتتح ساحة الرقص بحركاتها المجنونة ورقصها الحار، وضحكاتها المجلجلة كجرس كنيسة، وتظل منذ دخولها المتأخر -دائماً بعد منتصف الليل- وحتى انتهاء الحفل في ساحة الرقص، لا ترفض دعوة أي شاب للرقص، بل وترقص بكل كيانها وجسدها وروحها وشعرها الأسود الطويل، شعرها الذي سمعت مرة أحدهم يقول لصديقه أثناء الرقص: أنا لا أعرف الرقص ولم أرقص سابقاً، إنما شعر هذه المجنونة يحركني، شعرت أني دمية ماريونيت معلقة بخيطان تتصل بشعرها الذي كان يحركني معها.

قبل نهاية كل حفل، تتهافت عليها أرقام الهواتف للفوز بها لليلة، أو شهر، أو علاقة دائمة، أو حب أزلي كما يدّعون، كان بعض الشباب يتبع أسلوب المزاح والنكت الظريفة، والبعض الآخر يظهر وسامته وجيوبه الممتلئة، وكلٌ يخرج من البار خالي الوفاض، إلا من ابتسامات تنم عن الرفض المهذب.

كانت تعلم يقيناً بينها وبين نفسها أن الحب سيأتيها فجأة كإعصار بدون مقدمات ولا نكات سمجة أو بذيئة، بلا ساعات رولكس أو سيارات فارهة مكشوفة السقف، حتى أنها تعتقد أن هذا الحب سيأتي ساكناً بلا مراقصة أو ملامسات تمهيدية، حب ساكن جارف كسيل إعصاري.

في آخر سهرة تتذكرها الآن وعيناها ممتلئتان بالدموع المختلطة بالكحل الذي لوّن وجهها كدب الباندا، دخل هذا الحب من باب البار ولم يلتفت إلى أحد، جلس قبالة نادلة البار السمينة وطلب كأس فودكا بالليمون، لحيته بعمر خمسة أيام، وشعره ككومة أغصان يابسة، غبّ الكأس دفعة واحدة، وأشار بإبهامه إلى النادلة أن املئيه مرة ثانية، ملأته النادلة بابتسامة مدتها ثانية ونصف، وانتظر هو حوالي الدقيقتين حتى تبرد حنجرته، ثم تجرع الكأس الثاني دفعة واحدة أيضاً وأشار بالإشارة نفسها، لكنه ظل محملقاً برفوف البار الممتلئة بزجاجات الشراب المختلفة، بدون أن يحيد نظره إلى ما يحصل خلفه، من صخب الموسيقى والرقص والصراخ المجنون، ظل ثابتاً مدة خمس دقائق تقريباً، ثم بدأ يشرب الكأس الثالثة برشفات صغيرة، ونظرات يائسة إلى الرفوف ذاتها، وإلى ثديي النادلة ومؤخرتها.

لفت نظرها هدوءه ولامبالاته الباردة، تركت جُلساءها ومن يحاول التقرب منها، وتوجهت إلى البار وجلست إلى جانبه بدون أن تنظر إليه، وطلبت كأس تاكيلا، رشفته وضربت قعر الكأس على البار ونظرت إليه، فلم يلتفت نظره أنملة عن الرفوف، إلا من نظرات خاطفة إلى مؤخرة النادلة الكبيرة، فمدت يدها اليمنى وأمسكت بجنون شعرها وجمعته حزمة واحدة من على كتفها الأيسر، ونقلته إلى كتفها الأيمن، أثناء هبوب شعرها لفحته رائحة عطرها، وأصابت وجهه برودة هوائه، ولامست رقبته بعض الشعرات المتمردات.

أدار رقبته ببطئ حتى التقت نظرتاهما معاً، لم تتغير ملامح وجهه أبداً، مع أن عضلات وجهها تحركت ورسمت ابتسامة مذهلة، جعلت نظره يتسمر في حملقته إليها.

مرت خمس ثوان طويلة جداً، وكأن الشمس أشرقت في الخارج ثم غابت، ثم أصبح الليل ساكناً، وتوقف كل شيء من حولهما، حتى بادرت هي بقولها: هاي… لم يكن غبياً بدوره حين رد عليها: هاي.. ومد يده باتجاهها أثناء تعريف نفسه لها وقال: لوكاس.. فأجابت هي بالسرعة والبديهية نفسها: بيث….

لم يفلت يدها، ولم تقم هي بهذه الحركة وكأنهما غاصا في عالم آخر لا يمت بصلة للواقع الصاخب حولهما، وكأن الموسيقى صمتت، ومات كل من كان يرقص، وتبقت جثتان متقابلتان تمسك يد إحداهما بالأخرى، جثتان هشتان كثيفتان طيفيتان.

ولم يعودا للواقع حتى أخبرتهما النادلة بابتسامتها الموجزة كنشرة جوية، أن النادي سيغلق بعد خمس دقائق، كان الحفل قد انتهى، ولم يعلما كيف مرت هذه الساعات الثلاث، وهما يتبادلان الأحاديث التافهة.

في الخارج كان الجو معتدلاً مائلاً للبرودة، كانت ممسكة بشالها بيديها الاثنتين، وهي تنظر إليه، عندما دعاها للمبيت عنده هذه الليلة، وقد صرّح لها بأنها ستكون ليلة ناقصة إن تركا بعضهما في هذه الساعة!

أحبت جنونه البارد والصادم المتناسب مع جنونها المتمرد، فأمسكت بذراعه، وقالت له: يجب أن نسرع قبل أن يهرب الليل منّا.

في الصباح كان قد استيقظ قبلها، فحضّر القهوة، وأحضرها  إلى السرير، عدّلت من استلقائها، فانكشف ثدياها، نظر إليهما فكادت تنسكب القهوة منه، فضحكت ساخرة منه، وأخبرته أن منظره أصبح غبياً بهذا الشورت ذي الخطوط الزرقاء، وأخبرته أن القهوة تصبح ألذ عندما تحضرها عارياً، لم يعترض على تعليقها، ولم يعقّب عليه.

أصبحا يلتقيان كل يوم، وأخبرها أنه يعمل كاتباً ومهتم بشؤون الأدب، وحدّثها عن طبيعة عمله وكيف يعيش وحيداً، حكى لها عن ماضيه السابق، وعن معاناته في بلاده، وعن هروبه من الحرب، وعن مغامراته الفاشلة، وعن اكتئابه الذي لا يفارقه، كان يذكر لها اكتئابه، ويهرب من مصارحتها عن سبب هذا الحزن الذي يتلبسه.

في المقابل هي كانت تستمع، وهي فرحة كولد تُحكى له حكاية قبل النوم، وكانت تسأله عن التفاصيل الدقيقة، ثم تقبّله في موقف يحكيه لها عن معاناة ما، وتكاد عيناها تطفران بالدمع، وإن كان يحدثها عن مغامرة عاطفية، تنسجم معها وتمسك يده وتحاول جرّها إلى بين قدميها ليتحسس رطوبتها، وإن حدثها عن أمر عادي، تخبره بأنها جائعة، وهو يعلم أنها تهرب من سماع الأحاديث العادية، أو من أي سؤال يسألها إياه، الغريب أنها كانت تأكل بشكل مثير، كما كان استماعها مثيراً، وكانت تنام بشكل مثير، وتغضب بشكل أكثر إثارة.

حاول أكثر من مرة حثها على أن تحدثه عن نفسها إلا أنها كانت تجيد الهروب بشكل مذهل، حتى وقع في مرة وأصرت هي بدورها أن يحكي لها سبب كآبته، مع أنه حاول التهرب مراراً والالتفاف على هذا السؤال بأن يسألها عن نفسها، وكانت تصبح هي في موقف الدفاع والهروب، إلا أنها هذه المرة، احتضنته وقالت له: اليوم سوف تحكي لي عن سبب هذه النظرة الميتة، وسأحكي لك بعدها فوراً عن كل ما تسألني إياه.

تعرفين كما قلت لكِ لم يكن لدي الكثير من العلاقات العاطفية، وأعرف نفسي وألتمس العذر لأي امرأة لا تستطيع إكمال حياتها برفقتي، فمزاجيتي ومهنتي وتقمصي لشخصياتي جعلت مني شخصاً سيئاً وغير مرغوب به، ولم تزعجني أبداً القرارات التي اتخذنها النساء اللواتي عرفنني، حتى وقعت في حب امرأة كنت قد رأيتها في مقهى الشارع الرئيس للمدينة، هي الوحيدة التي أستطيع أن أقول لك أنها لم تلفت نظري فقط، إنما جمدتني في مكاني، لم أستطع السيطرة على نفسي لحظة رؤيتي لها وهي تكتب شيئاً ما على دفتر أمامها، لم أستطع أن أحيد بنظري عنها، كنت أعلم تماماً أن شكلي بهذه النظرات أصبح كأي متحرش بالنظر، ومع ذلك ورغم يقيني التام بأنها إن انتبهت إلى هذه النظرات ستشكل نظرة خاطئة عني، وأني مثل أي متحرش يلتقيها يومياً، إلا أني تسمرت ولم أعد أتحكم برقبتي، وحركة عينيّ، حتى نظرت في عينيّ من تحت النظارة الطبية ذات الإطار الأسود.

جمعت شتاتي، وحملت فنجان قهوتي واتجهت نحوها، وسألتها إن كان باستطاعتي الانضمام إليها أثناء شرب القهوة، لم أسمع صوتها حينها، فقط أشارت بكف يدها، وهي تمدها باتجاه الكرسي مع ابتسامة تضج بالحياة، أن تفضل، ثم تابعت كتابتها وهي لا تنظر إلى شيء حولها.

شربت قهوتي بتمهل بانتظار أن تسنح لي الفرصة لأقول لها أي شيء، أو أن أفتح معها حديثاً يجر آخر حتى أستطيع لقاءها مرة ثانية، ولكن الأمل انقطع لدي بعد فنجان القهوة الثالث، فحملت خيبتي وعدت إلى البيت، حاولت الكتابة عنها، إلا أنها كانت عصية على الوصف، لم يعد في رأسي أي شيء سوى حركة يدها وابتسامتها ونظارتها، فتحت الإنترنت وتصفحت كل ما وجدته من أنواع النظارات ولكن لم أجد تلك النظارة، حاولت تقليد حركة يدها المتفاجئة من سؤالي، ابتسامتها، كل شيء عصي وممتنع وصلب، وكأن ذاكرتي مُسحت تماماً وأصبحت ضبابية عنها، وجزء من الدماغ أصبح أسود.

أصبحت أتردد كثيراً إلى نفس المقهى، ولكني لم ألتقِ بها إلا بعد ستة أشهر، المفاجأة كانت بأنها هي من بادرت وطلبت الجلوس على طاولتي، وهذه المرة كانت تنظر إلي ولا تتكلم، مع ابتسامة لم أعرفها ساخرة أم نظرة إعجاب، هي تشبه نظرة أم إلى طفلها اليافع، وهو يقوم بأعمال جديدة عليه وهي فخورة به.

كانت تنظر إلي وأنا مرتبك بفتح الأحاديث التافهة لأسمع صوتها، لتقوم بإجابة أو رد فعل، وبعد عدة محاولات فاشلة، قالت لي بصوت فيه بحة: أعلم أنك تود التقرب مني وممارسة الحب والجنس معي، أعلم تماماً أنك معجب بي، ولكني لا أستطيع أن أوافقك في هذه العلاقة، ومن الممكن أنك ستكرهني بعد أن أحكي لك كل شيء، وبعد أن تعرف الحقيقة!

لا تقل شيئاً الآن لست مضطراً أن تقول أشياء مرتبكة، استمع إلي فقط، أنت لست برجل حقيقي، إنما أنت شخصية أنا من خلقتها، قصتي التي كنت أكتبها وأنت تراقبني، هي قصتك أنت، أنت عبارة عن كلمات متراصة ومصقولة بعناية تحدد هويتك وشكلك ومصيرك وقدرك، مصيرك الذي كتبته أنا واخترتك لتكون ضحية الحزن والكآبة، الأمر الذي سيجعلك تكرهني إلى أبعد حد.

قاطعتها بجملة سريعة: لا بد أنكِ مجنونة، وقرصت نفسي وتألمت، وهي تبتسم وتابعت حديثها: نعم أنت تتألم لأني أنا من رتبت لهذا اللقاء، وأنا من جعلتك تقرص نفسك، وباستطاعتي أن أمارس ما ترجوه مني كممارسة جنس أو علاقة، ولكني أفضل النهاية التي اخترتها لك، ليس لأني أنانية أو لا أريدك، ولكني أفضل أن تعيش حبيبتك بيث.

عندما سمعت بيث اسمها وأنا أحدثها، اصفرَّ وجهها وجحظت عيناها، وامتلأ فمها تراباً، ولم تعد تستطيع التركيز من هول المفاجأة، لكنها لم تقاطعني، وأكملت لها ما حدثتني به صاحبة النظارة: لقد جعلتك كاتباً لتكتب أنت قصة بيث وتخلقها، وتكونها كما تحب، ولكني لم أستطع أن أفعل شيئاً يجعلك سعيداً، غير أني ألهمتك أن تكوِّنها على شكلي وبصفاتي، أما خيارك بأن تجعلها امرأة من رواد البارات غير قابلة للعلاقات الطويلة، فهذا كان من اختيارك أنت، أنت من سيجعلها تخرج من حياتك القليلة المتبقية، وتكمل رسم قدرها بنفسك، ونصحتك بأن تتجنب أسئلتها وجنونها، فهي كتعويذة خطرة، إن أخطأت في طلسمها تعود عليك بلعنة، لعنة بقائك هنا في هذا الدفتر، أما عن لقائي بك، فهناك أمر فعلته أنت بنفسك، لماذا رسمتها على شكلي وقررت أنها ثنائية الجنس؟

لا أريدك أن تبقى صامتاً فأنا هنا لأنهي هذه المسألة معك، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وترك المقهى وعاد إلى منزله على الفور، فتح أوراقه وراح يقرأها، وهو يزداد عصبية من كل ورقة يقرأها ويمزقها ويصرخ بجنون، وعندما وصل إلى آخر صفحة كان مكتوب فيها:

تركتني بيث في تلك الليلة بعد أن أخبرتها بكل قصتي، كانت تبكي بنشيج، وخرجت راكضة بنصف ثيابها، وهي تتوعدني بأنها ستضاجع أول رجل تقابله، مما أثار غيرته وجعله مجنوناً يتخبط بين الأوراق، أخرج مسدساً صغيراً كان قد اشتراه منذ زمن، وخرج وراءها، وصل إلى منزلها، فسمع أصوات غير مفهومة، فلم ينتظر أن يدق الباب، أو يُفتح من قبلها، فركله بقدمه ركلة قوية واتجه نحو غرفة نومها، موجهاً مسدسه باتجاه السرير، عندما وجدها تبكي بعيون ممتلئة بكحل يسيل على خديها، وبجانبها الكاتبة نفسها وكانتا عاريتين تماماً في السرير، ارتجف المسدس بيده وهو يوجهه بين التوأمين المبتسم والباكي، ثم وجه السبطانة إلى رأسه واستند إلى الحائط وهو يرتجف، وانطفئ كل شيء فجأة، ولم يتبق سوى أوراق متناثرة في أرضية غرفة تغطي تحتها جثة مدماة.

اقرأ/ي أيضاً:

قصة قصيرة: نهاية حفلات التقيؤ

آنية الورد التي لا تعرف أنها انكسرت

“انشغالات الهوية وأسئلتها: من نحن وأين نحن؟”.. فعالية ثقافية في مدينة كولن الألمانية

انعقاد قمة “هجرة العمالة الماهرة” في مكتب المستشارية في برلين