in

الذباب

اللوحة للفنان عبدالله مراد

موسى الزعيم.

استيقظتُ من نومي مُرتبكًا، أهشُّ بيديّ الفراغَ بارتيابٍ، أصابعي تُبعدُ شيئًا ما سقطَ على أنفي. وفي لحظةِ وعيٍ نَظرتُ حولي، أدركتُ أنّه كابوس مزعجٌ ليسَ إلاّ، بل مقزز. قالتْ زوجتي: ما بك، أراك مكّدرًا؟ قلت:ُ كابوسٌ أقلقَ كياني، ورحتُ أتلفّتُ حولي، كنتُ قد رأيتُ نفسي ممددًا على الفراش، وحولي أسرابٌ من الذباب التي غطّت جسدي وكلمّا طردتُها عادتْ من جديدٍ .

يتكاثرُ الذباب شيئًا فشيئًا، فيغطي أرضَ الغرفةِ كلهّا، بينما رائحةُ العفنِ تزكمُ أنفي، أحسست وكأنّ الرائحةَ تنبعُ منّي، حتّى خِلتُ نفسيَ جيفة ًمتفسخةً.

الذبابُ يسقطُ على عينيّ، على فمي، حشا أنفي وراحَ يستفزّني بدغدغاتهِ  المقيتة.

قالتْ: اللهم اجعله خيرًا.. انتظرْ لحظةً.

ثم ابتعدتْ عنّي قليلاً..  تناولتْ سمّاعةَ الهاتفِ، وراحتْ تتحدثُ إلى إحدى صديقاتِها وتنقلُ لها ما قلتُ بالحرفِ الواحدِ ..رجعتْ في عصبيّةٍ ظاهرةٍ، واتجهتْ إليّ بنظرةِ لومٍ، تُشعرني أنّي المسؤولُ عن أحلامي ، وراحتْ تقولُ: كم مرّة قلتُ لكَ عيبٌ عليك؟ ما زلتَ متعلّقًا بالنساءِ؟
إذن أنا لا أعجبكَ..!! طلّقني و وأرحني  منكَ.

قلتُ: كبّري عقلك يا امرأة ماذا حدثَ ؟

قالتْ أفعالُك في اليَقظة ظهرتْ في أحلامكَ.. الذباب نساءٌ حولك يا زوجي العزيز! عيبٌ عليك! ابنُك صار طولك، كم مرّةٍ قلتُ لك خفّف من ابتساماتِك للموظفاتِ حولكَ؟ للمراجعاتَ؟ لكن .. حسبي الله ونعمَ الوكيل فيكَ. ثم خرجتْ وهي تبكي ..

صرختُ خلفها اذهبي ربّي يكمّل عقلك ..

ارتديتُ ملابسي، وخرجتُ على عجلٍ إلى عملي، وأنا بينَ الفينةِ والأخرى ..أضربُ الفراغَ عن وجهي.. أمسكُ أرنبةَ أنفي، حتى صار مَنْ حولي يراقبون تصرّفاتي في الحافلة .

ما إنْ جلستُ وراءَ طاولتي، حتى بادرني زميلي الفضولي مُحسن  بالسؤال المُتوقّع، ما بك كأنّك لم تنمْ الليلةَ؟ أو أنك نسيتَ أن تغسلَ وجهك.. ثم أتبعَ كلماتِه بضحكةٍ خبيثةٍ ساخرة..

أعرفُه لن يكفّ عن أسئلته وتحليلاتهِ الباردةِ، حتّى يعرفَ ما بي فحكيتُ لهُ مباشرةً ما كانَ من كابوسيَ اللعين. قالَ وهو يضحكُ : لا عليكَ.. الأحلام والكوابيسُ دائمًا انعكاسٌ لواقعٍ نخفيه في ذواتنا  .

التفتُ إليه..ساخرًا

  • هل تريدُ أن تعطيني درسًا في عِلمِ النّفسِ “فرويد” زمانك؟
  • لا ..لا  لكن فتّشْ في ذاتكَ عن أشياءَ تُقلقكَ.. أشياءَ لا تفكّر فيها بالمدى القريبِ.. أي.. تحاولُ نسيانها.. لنقلْ.. تتناساها متعمدًا، لكّنها تظهرُ فجأةً على ساحةِ أحلامكَ ..
  • إلى ماذا تلمّح..؟
  • دُيونكَ التي كَثرتْ، في الفترةِ الأخيرةِ، وأنتَ تغضُّ النظرَ عن سَدادها، وكأنّك نسيتَها.. قلْ لي هل بقي موظّفٌ في الدائرة ولم تستلف منه المال؟
  • معكَ حقٌّ ..
  • اسمعْ.. الذينَ يقرضونَك المالَ، ألا يلحّون عليكَ  بطلبِ مبالغهم ؟
  • بلى، يا رجل قبل َأنْ تقولَ له صباحُ الخيرِ، يبدأ بالعزفِ على لحن ِآخرِ الّشهر، ويرددُ إنّه عندما أقرضَكَ المالَ، كان شهمًا، فكنْ بنفس الشّهامة وردّ عليهِ مالهِ ..
  • هاها والذبابُ ألا يُضربُ بهِ المثلُ بكثرةِ الإلحاح..؟ فيقالُ ألحّ من الذباب؟
  • بلى!
  • وصلنا إلى التّفسير. الذبابُ في المنامِ كَثرةُ الدائنينَ وإلحاحهم .

ضحكتُ في سرّي، وأنا أعلم أن محسن الفضولي، أوصلَ رسالتهُ الذبابيّةَ التي مَفادها “أريدُ الخمسةَ آلاف  التي استلفتها مني أوّل الشهر “. اكتفيتُ بزمّ شفتيّ على شكل  فاصِلةٍ منقوطةٍ  ..

  • مُـــــــــــمْكِن !

بعدَ قليلٍ دخلَ أبو أحمد مُستخدمُ المديريّة، ووضع أمامي كأسَ الشاي فانسكبَ قِسمٌ منهُ في الصّحنِ الصغيرِ، أبو أحمد تبدو على وجههِ علاماتُ الامتعاضِ والغضبِ .

سألهُ زميلي الفضولي: خير لماذا التكشير؟ قلْ صباح الخير يا رجل أم أنّك رأيتَ كابوسًا مثل استاذنا.. وأشار إليّ ..
التقطَ أبو أحمد رأسَ الخيطِ، فقد أنساهُ فضولُه ما في وجههِ من عبوس.

قال له الفضولي الأول: لن أحكي لكِ، حتّى تُحضر له فنجانَ قهوةٍ يعدّل مزاجهُ، بدلَ كأس الشّاي المدلوقِ هذا .
ردّ الفضولي الثاني: تكرم… وخرجَ مُسرعًا، وعادَ بفنجانِ قَهوةٍ جلسَ قبلَ أن يضعهُ أمامي ..

ودونَ مقدماتٍ حكى له مُحسن قصّة الحُلم الذي سّماه  كابوسًا.

التفتَ الفضوليّ الثاني وقال: باختصار استاذ، الذُّباب إلحاحُ الزوجة في طلباتِها المنزليّة، بالله عليك تفقّد جيوبكَ ألا تجد ورقةً كُتِبَ فيها ألفُ طلبٍ وطلب، وكلّ يوم على هذا المنوال . الّذبابُ في المنامِ : زوجةٌ متطلّبة، وأحسبُ أنّ أختنا زوجتكُ منهنّ، اسألني أنا.. حفظتُ موشّح الصّباح، قبلَ أن آتي إلى هنا.. ألا ترى أنّي أقاِتلُ ذبابَ وجهي الحقيقي طبعًا؟

قهقه الفضوليّ الأولُ ضاحكًا.

تابعَ الفضوليّ الثاني: والمصيبةُ أنّ هذه الطلبات تكثرُ مع الأيام، ولا تنخفض إلا ّعندما ترتاح الراحة الأبديّة. كابوسكَ بسيطٌ ..!! أستاذ، تفسّرَ ..

خرجَ أبو أحمد، وأنا أضحكُ في سرّي، فكثيرةٌ هي المرّات التي استعنتُ به في إحضار طلباتي المنزليّة، والتّي يراها مكتوبةً في الورقة .

في الساعة الأخيرة من الدوام دخل علينا رجلٌ  لهُ هيبةٌ ووقارٌ، كان ذلك بادٍ من لحيتهِ البيضاء المُمشّطة بعنايةٍ وعباءتهِ المقصّبة.  أشار إليّ زميلي من بعيد أن أسالَهُ، عن تأويلِ الرّؤيا.. ترددتُ قليلاً ثم.. تبرّع هو بأن مهّد لي  الطريق قلتُ: مولانا أنا رأيتُ اليومَ..  كيتَ .. كيتَ. قال الرجلُ ذو الّلحيةِ البيضاءَ والأسنانِ اللامعةِ:

  • بنيّ سأسالكَ أسئلةً بسيطةً .. اجبني عنها بصدقٍ.
  • تفضّل ..
  • هل تصلي .. ؟
  • أحياناً ..
  • في المسجدِ؟
  • الجمعة والعيد .
  • هل تزكّي ؟
  • مولانا راتبي يحتاج إلى من يزكّي عليه.
  • هل تصلُ أرحامك .. ؟
  • ليسِ دائماً ..

اقتربَ منّي وهمسَ في أذني:

  • هل ترتشي .. ؟
  • ………

انفجرَ في وجهي :

  • إي حمدْ ربّك أنّك رأيتَ ذبابًا، وليس طيورَ أبابيل .. هذهِ  ذنوبكَ، يا ولدي تَعاظمتْ عليكَ، وجاءَتك بصورةِ الّذباب ..استغفرْ ربّك وعدْ إليه تتطهرْ نفسُكَ.

خرجَ من الغرفةِ وأنا اسْمعه يرددُ: الله يهديك ..
تعكّر مزاجي اليومَ، ليسَ بسببِ الّذباب فقط، وإنما بسبب سرب الفضوليين أمثال زميلي الذي أوقعني في دائرةِ الاتّهام ..قبلِ وصولي إلى  البيتِ، دخلتُ إلى محلّ  السّمان، واشتريتُ ما هو مطلوبٌ في القائمةِ  ..  لا أدري كيفَ امتدتْ يدي إلى عُلبة مبيدِ الحشراتِ عندما رأيتُ عليها صورةَ ذبابةٍ كبيرةٍ أحسسُتها تسخرُ مني ..

سمعتُ جدتّي مرّة تسميهِ ملكَ الذبابِ ..”ضحكتُ في سرّي وأنا أتساءل عن مذكّر الذبابة”. لا فرقَ هي مسمياتٌ واحدةٌ .. لقائدِ الحشراتِ المزعجة  في البيتِ بعد الغداءِ تابعتُ الأخبارَ العاجلةَ ..  تذكّرت ليلةَ البارحة، تصريحَ مسؤولٍ عربيّ كبيرٍ بعد لقائهِ بنظيرهِ الإسرائيلي ….

غفوةُ قليلاً، عادتْ رائحةُ العَفن تزكمُ أنفي.. بينما تمددتْ أمام ناظري جثتي، وعاد الطنين يملأ أذني .. مددتُ يدي إلى علبة مبيدِ الحشراتِ .. قناةُ الأخبار تنقلُ اجتماع القّمةِ مباشرةً. دونما  أشعر تخشّبتْ أصابعي حول العُلبة ضَغطتُ على صمّامها ورحتْ ارشُ السائلَ القاتلَ باتجاهِ شاشةِ التلفاز ..

بينما يدُ زوجتي تهزّني وتقولُ قمْ .. استيقظْ ..هل عدتَ تتصارعُ مع الّذبابِ من جديد…؟

سياسي ألماني يدعو لمنح الإقامة لسوريين ساعدا في القبض على إرهابي

إنقاذ حياة امرأة باستخراج كرة عملاقة من الشعر من معدتها