in

اعتبارات الخاسر

العمل الفني: ريم يسوف
محمد المطرود. شاعر وناقد سوري مقيم في ألمانيا

شوهد على جسرٍ غريبٍ لنهرٍ غريب، تدلّت ذكرياتهُ نحو الانتحار، يقولُ نصحتهُ امرأةٌ قارئةٌ بـ “طعم الكرز” لعباس كيارستامي، فأحبّ الحياة واختارتهُ من بين كثرٍ، تدّلوا طوعاً إلى بئر الموت، نحو سرّ يخطفُ ضحاياه من هذا القليل إلى ذاك الالتباس الكثير في الأضواء والكاميرا التي تقنصُ أعمارنا مشهداً مشهداً!

شوهد ميتاً تحوطهُ أحد عشر ألف جثة، كذّبتْ أمّهُ الصورة، ونطقت بلسان عجزها: حيٌّ ويُعذّبْ، يقولُ: حدسُها قشةُ النجاة، جدّفتُ بكلّ الصبر الذي أملكُ، والصبر الذي خبرتهُ في المرويّات، كنتُ” أخيّب ظنّ العدم”، لئلّا أخيّب ظنّ أمي، فنجوتُ بأنصاف الأمور وندوبٍ عميقةٍ في مهاوي داخلي، باهتةٍ على وجهي مثل ألوانٍ باردةٍ وشعورٍ مُحايد!

شوهد خارجاً من النار كعصفور النار، يتيماً، فرداً، وحشداً بآلامه، آلام ذئبٍ جريحٍ في شطوط الجنوب، آلام طائرٍ حرٍّ، أبعد ما يراهُ غابةً كثيفةً غريبةً عليه وعلى غبارٍ ينامُ تحت جلد بداوته، يقول: شاهدتُ الماء يحفُّ بي، سمعتُ الموتى والأحياء يصرخون: “يانار كوني برداً وسلاماً”، فسلمتُ وحيداً كناجٍ من الطوفان والنيران وبلا زوجٍ تحملهُ الفلكُ بعد الخراب.

ثمّ أملٌ خافتٌ بأرضٍ ثانية، لو الحربُ لم تمشّ على وجهها ولم تتركْ ندوباً كالتي أحفظُها على وجهي وفي حقيبة روحي!

أصدّقُ نبوءة السوريين المعذّبين سائرين على الصراط لا هم للجنة وأقربُ للجحيم، أصدّقهم كما أصدّق أمي والمرأة التي أرشدتني إلى طعم الكرز القارئة/ الشاعرة/ الظاهرة مثل فكرةٍ أو إشاعةٍ، المستترة مثل شبحٍ ناري، يظهرُ في الفضاء الخائف، في المسافة الغازية بين بلدي وبلدٍ بديلٍ، في الحياة المرتجة من أول زلزالٍ في ذاكرتي الشخصية إلى أول ثباتٍ عدميّ!

شوهد في كتلة ” البلم” يهوي على ريح البحر بسيف الصبر ودرع النجاة، مؤمناً أنّ الغرق نجاةٌ، وأنّ النجاة غرقٌ في الرحلة التالية، يقولُ: نجونا، ليس لأننا رأينا حرباً بين الملائكة والشيطان، وانتصرت الشياطين _ولو إلى حين_ بل لأنّ سفينةً كبيرةً مدّتْ لنا يدها، لم نتعرفْ ديانتها، لمْ نُميّز علمها في غفلة انشغالنا بالذي سيأتي غداً، لم نكُ أسماكاً ولا بقع زيتٍ طافيةً، أخذتنا المياهُ من فم وحش البحر إلى فم الشواطئ الجديدة ووحوش الحنين!

ويقولُ أيضاً صرتُ كائن حنينٍ هشّ، تهزني ريحٌ خفيفةٌ، مثلما تبكيني الأغاني والدروبُ الترابيةُ، عصافيرُ الدوري في أسقف البيوت الطينية، حقائبُ تلاميذ المدارس، أناشيدهم التي لا تشبهُ أناشيد طلائع البعث، أصواتُ الربابات، الأنهارُ، الأقمارُ، النجومُ الأكثرُ بريقاً، العاشقاتُ الملتمعاتُ تحت لمعة البروق بين الزروع، الخبزُ الحار، الحلاّباتُ في تاريخ البدو، نزاعاتُ القرى ورائحةُ القهوة في مضايف إصلاح ذات البين، وأخيراً أولاً أصواتُ الأمّهات عبر الهاتف، وصورهنّ الطاعنة في الشوق تأكلُ الشاشةُ العمياءُ نصفَها، بينما أتابعُ حركة الملاك في البياض اللامستقرّ! 

شوهدَ في الغابة يُقلّم أظافر الوحوش، يهادنُ الحشرات الصغيرة، يدخلُ حربهُ الصغيرة مع العتمة، يصالحُ ضوءهُ الداخلي لئلّا يهلك، وتموت أحلامُهُ في الرطوبة والفزع من الشرطة وحرّاس المزارع، يقولُ: كان الطريقُ طويلاً، وكان الخوفُ، ولو لم أتركْ شيئاً خلفي، لما رأيتُ أمامي غدي، فأشتريه بالذي فاض من الأوهام، لا لأعيش طويلاً في الهشاشة، إنّما لأسرد قصتي، وأرمي عن ظهري خمسين عاماً من العوم في الفراغ والتدرّب على ابتداع أسماء تليقُ بالخاسر وتنتصرُ للاجدوى!

شوهِد في كنف غيمةٍ سارحةٍ من الشمال إلى شمال الشرق، أخوهُ انحباسُ المطر، دهشةُ الرعد، زوغانُ البروق، ولولا أنّهُ ضعيفٌ، واسعٌ بحزنه، سيقفزُ إلى الهوّة سعيداً، مكتفياً بامرأةٍ بصّرتهُ بالكرز، بفتوحات الفاكهة السحرية في روحها وجسدها، فأخرجتهُ من باب الفناء الخلفي إلى الحركة عكس التيار وريح الخماسين والزوابع والأخضر الكثيف في ملجئه القلق، عائماً فوق الأساطير!

هو سيدُ نفسه الآن، سكناهُ منطقةٌ حارّةُ الحواس بين سماءٍ واطئةٍ وأرضٍ ترتفعُ بالحاجات وشرور الحرب والرجاء بالنهايات، يطمحُ لأنْ تطبق السماءُ على الأرض فتنتهي المجازرُ، وتنتهي آلامُهُ. سيوصي بما يملكُ من الأمنيات للحزين الذي سيملكُ السديم ويرثُ حزنهُ! 

شوهد ظلّاً طويلاً لجثته في المرايا، شوهد كعلامةٍ ضوئيةٍ على مفترق البلدان الأوروبية، وكانت يدهُ ترتجفُ في الكتابة، عينهُ تنوسُ عن الشوف، جهاتهُ كثرتْ، ولا قلب صحيحاً فيستفتيه!

اقرأ/ي أيضاً:

“آلام ذئب الجنوب” النص والمدى المفتوحان

قراءة في رواية “سيدهارتا”.. احتفاءٌ بالحكمة في طريق البحث عن الذات

إعلان حالة الطوارئ لمدة 7 أيام في ولاية استرالية لمواجهة يوم “السبت الرهيب”

الزاوية القانونية: قوانين حيازة الأسلحة في ألمانيا