in

الاقتصاد الألماني ما بين هجمات ترامب وبريكزيت بريطانيا.. حين يقف اليمين واليسار على ضفةٍ واحدة

سعياً لفهم ألمانيا الاتحادية ووضعها الاقتصادي أكثر فأكثر، التقت أبواب بالدكتورة سلام سعيد دكتورة الاقتصاد الدولي في برلين، التي قدمت لنا إجاباتٍ واضحة وعميقة على تساؤلات الكثير من المهاجرين المقيمين في ألمانيا..

ما هي باختصار وبلمحة عامة الحوامل الأساسية لاقتصاد ألمانيا الدولة الأقوى أوروبياً؟

لا بد من التوضيح أولاً بأن ألمانيا لا تعتبر دولة رأسمالية لأنها تتبع ما يدعى “اقتصاد السوق الاجتماعي”. وهو يقوم على ثلاثة محاور:

  • اقتصاد حر يقوم على حرية حركة السوق والتداولات.
  • قانون ديمقراطي.
  • مراقبة الدولة في المجال الاجتماعي كتأمين صحي وأساسيات الأمان الحياتي. 

بدأ هذا الاتجاه في الخمسينات كرد على صعود الاشتراكية التي قالت بفساد الأنظمة الغربية اقتصادياً. في تلك الفترة كان التسابق ليس بالتسلح فقط بل بالنظام الاجتماعي أيضاً وبتأمين حاجات الفرد. وهكذا نتج ما يدعى “دول الرفاه” مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا.

الاقتصاد الألماني هو اقتصاد متقدم يعتمد على الصناعات الثقيلة كصناعة الحديد والسيارات والكيماويات والتكنولوجيا والبحث والتطوير في المجال التكنولوجي والتقاني ويعتمد بشكل كبير على التصدير. فتتداور ألمانيا والصين على مركز الصدارة في العالم. 

حامل آخر مهم هو الموارد البشرية وهم المفكرون ومطورو البرامج وخبراء التقانة والتكنولوجيا. وهناك كذلك اقتصاد تعليمي، وكما صناعة السياحة تقوم ألمانيا بصناعة التعليم إذ تقوم ألمانيا بإنشاء مدن طلابية بكل مرافقها وخدماتها وللطلاب قوة استهلاكية عالية، ورغم وجود جامعات خاصة بأقساط مرتفعة نسبياً لكنها تبقى أقل من الجامعات البريطانية مثلاً.

خلال الأشهر الماضية انتشرت تقارير ومقالات اقتصادية عديدة تتنبأ بركود اقتصادي محتمل في ألمانيا، فما هي الأسباب التي قد تقود إلى مثل هذه الأزمة في بلدٍ لا يفتقر للمال كألمانيا؟

بالنسبة للتقارير التي ذكرتها، هنا يوجد معاهد أبحاث تقيم الوضع الاقتصادي بناءً على ما يدعى “مؤشرات الاقتصاد الكلي”، كمعدلات الدخل والبطالة والنمو ودراسة قطاعات الإنتاج والخدمات والزراعة ضمن الاقتصاد الإجمالي العام بالإضافة لحساب الضرائب والإعانات. بناءً على هذه المؤشرات تستطيع هذه المراكز توقع اتجاه الاقتصاد. وهذه التقارير عن اقتصاديات الأرباع تصدر قراءاتها وتوقعاتها ولا تقول بحتميات. 

تقول التقارير الأخيرة أن الناتج المحلي الإجمالي على ربعين ازداد بنسبة واحد بالمئة فقط. هذا الارتفاع الطفيف هو انكماش عما هو متوقع وهذا يستدعي دعوة من هذه المراكز لاتخاذ إجراءات لمواجهة هذا الانكماش. لكن من جهة أخرى من المعروف أن الاقتصاد له دورات اقتصادية: انكماش وتضخم وزيادة يليها انكماش.

في عام 2008 كانت معدلات النمو سالبة ثم استطاعت ألمانيا أن تنهض مرة أخرى لكن زيادة واحد بالمئة حتى لو كانت موجبة تعتبر زيادة ضئيلة وغير كافية.

ما هي الأسباب التي تقود لهذا الوضع؟

كما ذكرنا أحد أهم حوامل الاقتصاد الألماني هو التصدير، وهو يعتمد على صحة الأسواق العالمية والمجاورة وقدرتهم على الاستيراد. إن كانت السوق العالمية منكمشة ولا تستورد فسيؤثر هذا على البلدان المصدرة كألمانيا. الحرب التجارية بين الصين وأمريكا جعلت التجارة العالمية تتضعضع مما أثر علينا طبعاً.

السبب التالي تماماً أن أمريكا لجأت إلى سياسات حمائية فيما يتعلق بالاستيراد فرفعت التعرفة على استيراد الحديد والألمنيوم والصناعات الثقيلة وهي مواد تصدر ألمانيا الكثير منها، هذا على مستوى العالم. 

على المستوى الأوروبي، التداخلات التجارية وحركة الاستثمار داخل الاتحاد كبيرة جدا، شركة في بريطانيا يمكن أن تقوم صناعتها في بولندا وتمر عبر ألمانيا هذا ما يسمى دولنة الإنتاج. علينا أن نعرف أن أهم شريك لكل دولة من دول الاتحاد الأوروبي هو بقية دول الاتحاد وحركتها التجارية ضمن سوق الاتحاد.

لذا موضوع خروج شريك تجاري كإنكلترا من الاتحاد (البريكزيت) بالإضافة إلى ركود أو انكماش اقتصاد دول كاليونان وإيطاليا وانخفاض القوة الشرائية وبالتالي تراجع الطلب على المنتجات الصناعية –كالسيارات مثلاً- ستؤثر حتماً على ألمانيا كدولة مصدرة. 

وبرأيي هناك سبب آخر: هناك نوع من out sourcing مصطلح يحكي عن إقامة خطوط إنتاج لشركات الدول المتقدمة في دول أقل تقدماً. كصناعة قطع السيارات وقطع الحواسب وأجهزة المحمول مثلاً في مصانع في الصين أو البرازيل حيث الأيدي العاملة رخيصة وتكاليف الإنتاج منخفضة، كما أنها بعيدة عن محاسبات البيئة (منذ السبعينيات هناك توجه نحو الصناعات الصديقة للبيئة). هكذا خرج سوق الإنتاج من الحسابات القومية الألمانية ودخل في حساب الدول المضيفة حيث المصانع. مما أدى إلى خسارة وظائف كبيرة وتسريح العمال الصناعيين هنا.

ألمانيا بحسب أحدث التقارير ابتعدت عن حافة الركود، فما كان المنقذ الحقيقي؟ هل جاء الحل سياسياً أم اقتصادياً؟

في 2008 اشترت الحكومة بقيادة ميركل البنوك الخاصة التي على حافة الانهيار والتفليس، أي أممت البنوك. إفلاس البنوك كان سيؤدي إلى انهيارات متتابعة على قطاعات اقتصادية أخرى كتسريح العمال والقطاع العقاري والخدمي وبالتالي ركود وبطالة أكبر وزيادة أعباء على الدولة. وتقرر تحديداً في مجال صناعة السيارات سحب السيارات القديمة من السوق بحجة عدم ملاءمتها لمعايير البيئة وهذا دفع المواطنين لشراء سيارات. 

يقول الخبراء الآن أن الحل لا يكون اليوم بسحب المنتجات لرميها في المهملات الصناعية بل مطالبة بتغيير النمط الاستهلاكي الرأسمالي للحفاظ على البيئة. لأن النظام الرأسمالي يعتمد على دورة الاستهلاك لا علاقة له بما يحدث خارج السوق على المدى القصير حتى لو كان استنفاذ الموارد الطبيعية.

علينا أن نفهم أن هذه المؤشرات تبالغ جداً بالسلبيات والتوقعات المخيفة لأنها مؤشرات مجردة، لها علاقة بالرقم، ولا تدخل بها الحسابات الإنسانية والاجتماعية التي تحرك فعلاً السوق في كثير من الأحيان كأن يعمل القادمون الجدد على تشغيل المهاجرين الأقدم أو العاطلين عن العمل مثلاً. البطالة في ألمانيا تبلغ ثلاثة ونصف حتى خمسة بالمئة وهي نسبة قليلة جداً مقارنةً بعشرين بالمئة من العطالة بين الشباب في إسبانيا.

السياسة هي الأهم.. ما هي الأزمة الداخلية -كمشاكل بين أحزاب الإئتلاف- أو داخل الاتحاد الأوروبي التي سمحت لهذا الركود أن يكون مهدداً لدولة قوية كألمانيا؟

منذ 2008 وفي محاولة للنهوض من الركود اعتمدت خطط البنك الدولي ووحدات الاقتصاد العالمية على سياسات تقشفية أثرت في عديد من دول الاتحاد على القوة الشرائية هذا أضعف الطلب وأدى لتهديد الإنتاج والدول المنتجة كألمانيا.

السياسة التقشفية هذه أتعبت الناس وزادت الفروق المادية بين الطبقات في أوروبا وعدم المساواة بالدخل والثروة بين هذه الطبقات -كما أشارت تقارير حساب الثروات الصادر من بنك سويسرا. حتى في ألمانيا اتجهت الشركات للعمال المؤقتين. أي أن المزايا التي كان يتمتع بها العامل والموظف الدائم من تقاعد مثلاً لم تعد موجودة بالنسبة للعامل المؤقت.

هذا التعب والقلق يترافق مع قلة القوة الشرائية مما ينعكس على السوق. وهذا التعب الاقتصادي يؤدي دائماً لصعود الشعبوية والتيارات اليمينية المتطرفة التي تعد بالمساعدة. 

من الطريف بمكان أن الأجندات الاقتصادية لليمين المتطرف تتقارب جداً مع التقدميين اليساريين والاشتراكيين. لكن اليمين المتطرف يسعى لفرض الكثير من الحمائية –على نمط سياسة ترامب الآن- الأهم هو المصلحة الوطنية الألمانية والعولمة هي تهديد للصناعة الوطنية، يقول بحماية السوق المحلية برفع التعرفة الجمركية مثلاً للحد من الاستيراد.

هذا تشاركه به السياسات اليسارية التي تدعو لعدم فتح السوق إلى ما لا نهاية بحجة حماية المنتجين الصغار من الحيتان الاقتصادية الكبيرة. وكل منهما ينطلق من إيديولوجيا مختلفة تماماً واحد باتجاه العدالة الاجتماعية والآخر باتجاه الفصل.

في المظاهرات التي خرجت من أجل المنطقة الحرة بين أمريكا وأوروبا خرج أنصار الـ AFD جنباً إلى جنب مع اليسار والتقدميين والنشطاء الإنسانيين. عملياً صعود التيارات يمينية هو مؤشر مهم جداً على الوضع الاقتصادي، يدل على سياسات اقتصادية بحاجة لتصحيح.

اليمين المتطرف يتركز في الأرياف والمناطق المتطرفة بسبب شعورهم بخروجهم من الحماية واضطرارهم لخوض صراع للوجود بوجود الشركات الكبرى في السوق، يستخدم اليمين المتطرف هذه الفئات.

اقرأ/ي أيضاً:

كيف تحولت “الجمعة السوداء” من أزمة اقتصادية إلى أكبر حدث للتسوق في العالم؟

انخفاض العمل الأسود والعمالة غير الشرعية في ألمانيا بسبب الاقتصاد القوي

الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي.. أذية مباشرة ولو بعد حين

العثور على جثث 6 مهاجرين ماتوا من البرد على الحدود اليونانية التركية