in ,

ثلاثة مشاهد باريسية…

مشاهد باريسية
مشاهد باريسية

شريف الرفاعي* في ثلاثة مشاهد باريسية

المشهد الأول:

في مترو الأنفاق ولدى الوصول الى محطة ” المدرسة العسكرية”، تسأل الفتاة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها جدتها:

–  ماذا يعني المدرسة العسكرية؟

–  يعني مدرسة تخريج الضباط.

–  ماذا يعني ضابط؟

الجدة ملتفتة الى زوجها: أجب أنت

الجد متنصلاً: لا أنت أفضل

الجدة: حسناً، كانت هناك حروب، ولأن عدد الجنود كان كبيراً، اضطروا الى إنشاء مدرسة لتخريج جنود أكثر خبرةً، اسمهم ضباط

الفتاة: آه…

الجد متدخلاً: لا تقلقي، كان هذا في الماضي، اليوم لم يعد لدينا حروب.

ملاحظة: لا يوجد في سوريا ولا في بلاد العرب كلها طفل واحد لا يعرف من هو الضابط، ولم يعد فيها من لا يعرف الحرب.

المشهد الثاني

مطعم باريسي في نهار مشمس ساعة الغذاء. شخصان يتناولان الغذاء مع زجاجة نبيذ فرغ أكثر من نصفها:

الأول: لو كانت فرنسا فعلت شيئاً ما في سوريا، لكان بإمكانها التدخل في أوكرانيا اليوم!

خطر في بالي مباشرة: اذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا.. الله يرحمك يا نهاد قلعي

الثاني: وماذا تريد أن نفعل هنا أو هناك؟ البلاد العربية كلها غاطسة في الخر… استعمل تعبير “dans la merde” أنظر حولك، العراق سوريا، ليبيا، أفغانستان…

خطر في بالي للحظة أن أصحح، جغرافياً على الأقل، كأن أقول مثلاً أن أفغانستان ليست بلداً عربيا، لكنني أحجمت

الأول: سوريا أكلها الجهاديون، فوالا ( voilà ) … ستتقسم ولن تنتهي الحرب الأهلية الدينية فيها، أخاف أن يأتي المتطرفون إلى هنا، حتماً سيأتون… عندها أوه لالا بيفففففففف يايا (همهمات بالفرنسية تشير الى خطورة الوضع).

للمرة الثانية خطر لي أن أتدخل، كأن أحاور في أصول التطرف وطيبة أهل البلد وكم دفعوا ثمن حياة لم يعيشوها وكم يدفعون من رزقهم وحياتهم ثمن مصالح وحسابات، لكني أيضاً أحجمت.

في تلك الحظة بالذات، وبعد أن لاحظت أني أقلب صفحات كتابي دون أن أفهم ما أقرأ، أتت صاحبة المطعم، جميلة، تهتز أردافها، ناداها المتحدث البليغ وفتح معها حديثاً عن الطقس الجميل وجودة الأكل والمكان، ثم أطرى على جمالها وقهقه بصوت عالٍ محاولا اشراكها بالضحك فاستجابت من باب مسايرة الزبون لا إعجاباً بالرجل. على كلٍ، هذا ما أحببت أن أظنه فإعجابها به كارثة يصعب علي تحملها.

المشهد الثالث من ثلاثة مشاهد باريسية

الثامن من آذار، عيد المرأة، في مركز رياضي حيث أرافق أطفالي كل يوم سبت:

تحمل المرأة الستينية ثلاث وردات، لُفت كل واحدة منها على حدة. تقترب من حفيدتها التي لم تتجاوز الثامنة من عمرها:

– هذه الوردة لك بمناسبة عيد المرأة، أنا أعي أنك لن تفهمي ماذا يعني هذا اليوم وسأشرح لك عندما تكبرين، عليك أن تعرفي فقط أن المرأة ناضلت كثيراً من أجل حريتها، من أجل حق التصويت، المساواة في العمل..

– وماذا أفعل ببقية الورود؟

– واحدة لك وواحدة لأختك والثالثة لأمك

– وأنت؟ من يقدم لك وردة؟

وقفت متفرجاً، هي لا تحتاج لوردة ياصغيرتي، هي تحتاج ألا يأتي يوم ننسى فيه من جاهد كي تصبح الأفكار على هذه الدرجة من البساطة حتى يتم نقلها إلى الأجيال اللاحقة بيسر.

نظرت الى الجانب الآخر، تراءت لي بلدي والخراب اللاحق بها. هل نؤسس لمستقبلٍ جديد أم نراكم أحقاداً لاعلاج لها؟ لا جواب واضح ثم قلت لنفسي : سيلاحقنا أطفالنا بلعناتهم ولن يكون في فمنا كلام ولا في أيدينا ورود.

شريف الرفاعي* كاتب ومعماري سوري مقيم في باريس

اقرأ/ي أيضاً:

حياتنا بدون أماكن ثابتة

احتفالات الهدنة وآلة الحروب التي لن تتوقف

هل يمكن أن تنسى دمشق؟

“في حواليك بيت؟” دور السماسرة في أزمة السكن البرلينية

في فرنسا.. الأسماء العربية تختفي