in

“إجراء شكلي”.. لعبة مسرحية من تصميم “تجمع مقلوبة”

رباب حيدر. روائية سورية مقيمة في ألمانيا

في المسرح هناك اتفاقية مسبقة: أن يأخذ الممثلون أدوارهم بجدية وأن يلعب المشاهدون دور الجمهور باحتراف. هذه الاتفاقية تتم منذ لحظة دخول المسرح، المساحة بين مقاعد الجمهور والخشبة، الستارة، إطفاء الأضواء ليستعد الجميع للعب أدوارهم. تبدأ الحكاية.

أمل عمران: “في قديم الزمان عن شقارق عن بقارق عن حياكين العبي وحفارين المعالق الكذب مابعرف اكذبو، البرغوت قد الارنبو، بشد عليه وبركبو، وبخوض البحر من شرقو لمغربو، مابيوصل حفة ركبو، لقيت المزابل عم تنبح عالكلاب، والحيط عم ينط عالحرامي، لاحني ولحتو. من شدة عزمي لقيتني تحتو”. هذه المقدمة “إجراء شكلي” لبداية الحدوتة وتسمى الدهليز.

مؤيد رومية: “الدهليز ما بيترجم ما إلو ترجمة بس المهم فيه الإيقاع الموسيقى بالكلمات.. بالعادة الراوي بيستخدمو ليحط شغلة جوات شغلة كلمة جوات كلمة لياخدنا من الزمن اليومي لزمن تاني ممكن إنو نبدا فيه لحكاية هي وظيفة الدهليز لهيك بسموه أحياناً البساط”.

يلعب الممثلون أدوارهم بشخصياتهم الحقيقية، ممثلَان من سوريا يبحثان عن دوريهما في ألمانيا، يحاولان قص حكايتهما. ربما لو أخذ مؤيد دور المحقق الذي يستجوب أمل في نقطة متخيلة على الحدود السورية لسهّل رواية الحكاية. لكن مؤيد ينزلق خارج دوره دائماً رافضاً دور المحقق. وأمل تتسلى بحكايتها ومن خلالها نحكي حكايات سورية.

الاتفاقية الجديدة هي أن يتم كسر هذا المسرح لتحل محلها اتفاقيةٌ اخرى يبرمها مؤيد وفريق المسرحية معنا ونوافقه عليها: “لن نمثل، لن آخذ دور ضابط ببدلة، أكاد أجزم إنو ما في مسرحية بآخر تمن سنين ما كان فيها دور ضابط!” فيدخلنا العرض ويخرجنا من أدوارنا مراتٍ عديدة.. في كل مرة يبدأ باتفاق أن لا نصدق ما يدور هنا، لنخرج من دورنا كجمهور لأنه خرج من دوره كمسرح. سنتشارك مع الممثل الحكم على المسرح وعلى العام وعلى المطلق وعلى الحقيقة.

على الخشبة يصعد المخرج ليحرك الديكور، يقف جانباً ويدخل المصور ليصير جزءاً من المشهد. الإضاءة كانت لعبة أيضاً فهل ستصدق ما ستلعبه معنا لعبة الظلال؟ الدراماتوج أُدخلت عنوة لتأخذ دور المترجم (جسرٌ آخر سيصل الخشبة بكرسي المتفرج).

الزمن يدخل في دهليز العرض: بينما أمل تتسكع في شوارع براغ عام 1994، يكون مؤيد تلميذاً في جرود يبرود يحاول أن يجتهد ليحصل على دراجة هوائية، ويتوقف حلمه بانتظار أن تنتهي نكبات والده السياسية. ينتظر انتصاراً عربياً ما حتى يرضى الوالد ويشتري لمؤيد دراجة.

وبين الحكايتين ولأننا اتفقنا أن نكون كلنا على الخشبة سيقص كل منا حكايته لنفسه. سنخرج مرتبكين قليلاً لكن متحررين من بعض حكاياتنا. وربما لن نشاهد المسرح بالطريقة ذاتها كما قبل هذه اللعبة مع تجمع مقلوبة.
“هذا المسرح هو ما نحتاجه بشدة في سوريا ” يقول محمد آل رشي الذي كان حاضراً بين الجمهور “لتسقط مقاعد الجمهور وتتماهى مع الخشبة ولنسرد بقصصنا كما نشتهي حتى نتعافى. لنحكي كل ما لدينا حتى نتعافى..”

أمل عمران من علامات المسرح السوري وتاريخها المسرحي طويل وطالما اهتمت بطرق لا تقليدية في تدريب الممثل بعيدا عن التلقين، أسألها بعد العرض عندما تمثلين أمل عمران هل تخرجين منك لتعودي وتتقمصي نفسك كدور؟

– لا. أنا لا امثل، بل أحكي حكايتي.

هذا ما نفعله كلنا عندما نروي حكاياتنا لأنفسنا، نجعلها خفيفة، الصفعة التي تلقيتها مرة تحكينها كفكاهة، وتعيدين قصها بهذا الشكل حتى تصبح حقيقة، نحكي الحكاية التي نرغب لانفسنا. هذا ما فعلناه.

وأسأل مؤيد: كيف تمثل دور مؤيد رومية؟

– في الحقيقة لا أملك جواباً محدداً مازلت في مرحلة الاكتشاف.

………

رغم لعبة الحقيقة والتي تبدو حرةً كارتجال لكن من يعرف تجمع مقلوبة جيداً يعلم مدى جدية البروفات والتجارب التي يمنحونها الكثير من وقتهم وطاقتهم وشخوصهم كذلك. من يتابع بروفاتهم يعلم أن لاشيء مما يبدو طارئاً أو انفعالاً أو إيقاعاً خارجاً عن السياق ما هو إلا أفعال مدروسة جيداً وعميقة.

لعبة العشوائية في هذا العمل هي لعبة الحكواتي نفسها التي نبهنا مؤيد عليها: يدخلك في متاهة ما هو حقيقي وما هو متخيل وما هو منطقي وما يمكن أن يكون خارج المنطق. وهكذا يكون المتفرج مفتوحاً على الاحتمالات كلها، ومفتوحاً على احتمالاته ذاتها. حتى هو يمكن أن يقع خارج منطقه في هكذا ألعاب.

والسؤال هنا هو هل هناك حدود للتمثيل لجمهور ألماني مقابل التمثيل لجمهور عربي؟ وهل النص موجه لجمهور محدد؟ 

في هذا العمل بالذات يسقط هذا السؤال، فكما سقطت الأسماء والأدوار واتفاقات المسرح والزمن في دهليز الحكاية سقطت كذلك الانتماءات الجغرافية.

أهلاً بكم في لعبة ” إجراء شكلي” على مسرح “المولهايم أن دير رور”.

إجراء شكلي

تمثيل أمل عمران ومؤيد رومية، إخراج وائل علي، كتابة مضر حجي والفريق، أزياء روبرت سيفرت، دراماتوج رانيا مليحي، إدارة إيمانويل بارتز، إضاءة فريتز دوميسيوس، فيديو غازي فرين، ترجمة لاريسا بندر، موسيقى خالد ياسين.

مدة العرض: ساعة وثلاثين دقيقة.

تجمع مقلوبة

تجمع “مقلوبة” مجموعة سورية للفنانين والمسرح ناطقة باللغة العربية مركزها الحالي “مسرح أن دير رور” (Theater an der Ruhr) في مدينة مولهايم.

في أعمالها المسرحية تتقصى فرقة “مقلوبة” على خلفية أحداث التمرد الأخيرة الحالة السياسية والاجتماعية في العالم ككل وفي المنطقة العربية وترافق الأعمال المسرحية مشاريع فنية كمعارض وورشات عمل وحفلات موسيقية. يهتم التجمع بالاكتشاف والتجربة المفتوحة مع الجمهور وطرح الأسئلة التي تستدعي التجربة ولا تتوانى عن التوغل في مناطق محظورة واعية أو لا واعية. في “إجراء شكلي” يطرح التجمع سؤالاً ويحاول الإجابة عليه: ما أهمية الأرشفة؟ وبعد كل ما حدث، ماذا يمكن للمسرح والتجمع أن يقدم؟

بالضغط هنا يمكنكم زيارة الموقع الإلكتروني لتجمع مقلوبة.

كما يمكنكم بالضغط هنا زيارة صفحة تجمع مقلوبة على الفيس بوك.

اقرأ/ي أيضاً:

“انشغالات الهوية وأسئلتها: من نحن وأين نحن؟”.. فعالية ثقافية في مدينة كولن الألمانية

“معاً”.. معرض للفن التشكيلي في برلين

كوابيس الثورة

شخصية العدد 48: مرجان ساترابي.. تصوير روائي لملامح الحياة في “بلاد فارس”