in

لاجئون وأكثر

اللوحة للفنانة ريم يسوف

محمـد داود

هكذا بلا مقدمات دخلنا جنة أوروبا الموعودة. هكذا بمحض الصدفة والحرب، رست قواربنا اليتيمة على الشواطئ القديمة لبلاد الروم والإغريق، وبعضنا رسى على شواطئ الأندلس، بعد أن نهشتنا مياه البحر، ليس أي بحر، بحرنا المتوسط جارنا القديم قدم البلاد.

أدهشتنا الخضرة التي تكسو حتى سقوف البيوت، أدهشتنا النظافة، أدهشنا النظام والتنظيم الذي تسير عليه البلاد.الحلم، أدهشتنا المياه التي تحكم حكم طاغية في بلاد النوارس والبط والغزلان ومواكب الأوز البري الذي يتبختر في الشوارع دون أن يحسب حساب صياد متربص، والأكثر دهشة وقوف السيارات دون أن تصدر صوتاً حتى يعبر الموكب.

أدهشتنا الحرية، وآه طويلة جداً من الحرية، الكلمة البدء، التي بدأت كل شيء، وفقدنا بها كل شيء. نراها في سلوك الناس ومعرفتهم لحقوقهم وواجباتهم، حرية المعتقد، حرية الحركة، حرية المظهر، حرية وفقط. بعضنا رأى أنها مقنعة وبعضنا اعتبرها وهماً، كذباً وزيف، ولا حرية حتى في كلام الرجل مع امرأته والأم مع طفلها.

كثيرة هي الأشياء التي أدهشتنا ولكننا نقف بعد عدة سنوات، لنرى أن الشيء الوحيد الذي لم يدهشنا هو ذواتنا التي لم تتغير ولو قيد شهيق، لم نستطع التغير حتى في أحلامنا، المبنية على وهم الذات العظيمة، دون أن تجد أسباباً تعطيها المشروعية.

لم تتغير نظرتنا إلى الأشياء من حولنا وإلى الناس الذين احتضنونا. شكونا من بعض العنصرية التي واجهتنا ولم نمتدح الترحاب والابتسامات التي أحاطتنا، وعزونا الكثير منها إلى فائدة يرجونها من قدومنا إليهم، نحن الذات العليا التي يجب على الآخرين حبها حمايتها والدفع لها، فقط لأننا نحن ولا شيء غيره.

تعاملنا بعنصرية مع بعضنا، عنصرية ربما تفوق ما رأيناه أو سمعنا عنه عن عنصرية الأوروبيين. انتشرنا وملأنا الدنيا ضجيجاً وصخباً، لم نترك حجراً إلا وأخبرناه بقصتنا متضمناً تاريخنا المجيد، وما اقترفه الغرب بحقنا، وما اقترفته الدمى الحاكمة التي زرعها الغرب بيننا بحقنا. طبعاً نصرُّ على تكرار كلمة حقنا رغم معرفتنا الأكيدة بأننا من أهدره بالدرجة الأولى، ودون أن نلتفت لكلمة واجب أصلاً.

انتشرنا في كل أرجاء القارة العجوز محملين بوسام الضحية، رافعين شعارات المظلومية “علامةً مسجلة” باسمنا فقط ولا يجوز لأحد أن يحملها. وأدهشنا عدم استيفاء الأرض الجديدة لعناصر الحلم.. الوهم في رؤوسنا ليس خطأ أوروبا، بل هي رؤوسنا المليئة بترهات أرض الميعاد ذاتها أو جنة الله على الأرض.

سألتني ابنتي في عيد الميلاد لماذا لم نجلب شجرة الميلاد إلى البيت؟، وسألتني في عيد الفطر عن عطلة العيد (عيد السكر) والتي غاب بها زملاؤها الأتراك عن المدرسة. أربكتني أسئلتها، ولم أجد رداً، وماراودني فقط هو سؤال الهوية والانتماء، ماهي هويتنا ولمن ننتمي؟ نحن حلقة التاريخ الأضعف منذ البداية، نحن التائهون في دروب العالم دون أن نخطّ تذكاراً لمن سيأتي بعدنا، نحن العابرون بلا توقيع على خارطة الحياة.

قلت لابنتي: ربما في السنة القادمة نحتفل بكل الأعياد في هذا البلد، وربما بعد سنوات سنقبل بحبّ أن نكون خيطاً صغيراً في هذا النسيج الجديد.

محمـد داود ـ كاتب فلسطيني

اقرأ أيضاً:

اللاجئون بين الاندماج وحلم العودة

أحلم أن أنتخب

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق

 

الملتقى الشعري الموسيقي في هالة زالة (Halle Saale)

بالفيديو. الضرائب في ألمانيا: نسب وأرقام