in

زاوية يوميات مهاجرة 7 وماذا بعد؟؟

اللوحة للفنان عمر ابراهيم

د. نعمت أتاسي*

جاءتني صديقتي يوماَ وهي تبتسم وفي عينيها بريق غريب لم آلفه عندها، وهمست لي بخفر مراهقة صغيرة تعترف لصديقتها الحميمة بأول ومضات الحب التي تعيشها: “أريد أن أعترف لك بشيء ما”.

تفاجأت وقلت في نفسي: “هل من المعقول أن تكون عاشقة؟ ألم تكتف هذه السيدة من مشاعر الحب والعشق؟”. أردت أن أختصر الوقت وأسهل عليها مهمة الاعتراف وأسألها: “هل أنت مغرمة؟”. ولكنني فضلت الصمت المطلق وانتظرت أن تخبرني هي بسرّها الدفين.

وبهدوء قالت صديقتي: “لقد ضبطت نفسي وأنا أبتسم عند سماعي لأغنية كنت أسمعها في حياتي السابقة”

 “وإذا..؟” سمعت نفسي أقول لها ببلادة. أضافت صديقتي السيدة العاشقة: “هناك شيء غريب يحدث، شيء غير طبيعي” “تابعي” شجعتها وأنا متحمسة لسماع هذا الشيء الغريب.

تابعت صديقتي: “غالباً ما كنت أبكي عند سماعي لهذه الأغنية في حياتي الحالية… بل كنت أخاف من سماعها حتى لا يداهمني الحنين ويعتريني الأسى وأنا أفكر بحياة ماضية، هذه المرة لم أكتف بعدم البكاء, بل شعرت بنفسي وأنا أبتسم وأستمتع باللحن.. والأكثر من ذلك أنني ضبطت نفسي وأنا أدندن بعض كلمات الأغنية”.

حاولت أن أهدىْ من روعها بعد أن شعرت برجفة القلق في نبرات صوتها فقلت لها: “أنه ليس شيء غريب تماماً، ربما نستطيع أن نفسّر هذه المشاعر بسبب الخريف الذي يزور باريس متأخراْ هذا العام…أو ربما هو الشعور بالخفة الممتع الذي بدأت تشعرين به مؤخراْ…. أو ربما هو مفعول الكتب التي تلتهميها بشراهة “.

هزْت صديقتي برأسها نفياً لتقول مصرٌة: “لا…. هناك شيء غريب يحدث… شيء يشعرني بالخوف والقلق”. وهنا تأكدت بيني وبين نفسي أنها عاشقة. لكنها أضافت:

“بالأمس أيضاْ ,وأنا أمشي كعادتي في باريس، هذه المدينة التي لا أملَ من اكتشافها، فاجأت نفسي وكأنني أعيش حياة طبيعية، حياة بدأت أعتاد عليها وحسبي أنها حياة حقيقية، لقد ألفت هذه الحياة الباريسية كما ألفت الأشخاص الذين غالباْ ما أصادفهم هنا، وعقدت صداقة مع ناطورة البناء الذي اسكنه والصيدلانية التي أشتري من عندها أدويتي“

“وصدقاْ أقول أن هناك مشاعر متضاربة تتقاتل وتتدافع في داخلي، هي خليط من الفرح والخوف في آن واحد. هو ليس فرحاْ أو خوفاْ بالمعنى الحقيقي، هو نوع من الاكتفاء الآني، هو الروتين الذي بدأ يبرمج أيامي الجديدة بهدوء واتزان. هذا الروتين الذي يمنحني شعوراْ بالأمان والاطمئنان.هو ليس خوفاْ فعلاْ، هو نوع من القلق الذي اعتراني فجأة عندما شعرت الأنا العميقة في داخلي أنني بدأت أعتاد حياتي الجديدة وأتسامح مع أيامها، وأن الروتين قد بدأ يسطر آثاره في أيامي ليخلق في نفسي شعورا دافئاْ وهادئاْ. هذه الأنا العميقة القابعة في أعماقي قلقت وصرخت متسائلة: ماذا؟! هل من الممكن أن تعتادي على حياة هي ليست حياتك الأصلية؟

هل من الممكن أن تعيشي الروتين وتتأقلمي في بلد هو ليس وطنك الأصلي؟

هل وصل بك اليأس من الرجوع إلى الوطن لدرجة أن تقبلي الواقع الذي تعيشيه هنا؟

وكثير من الأسئلة البدائية الأخرى التي نحتاج إليها في لحظات ضعفنا بعد أن كانت من المسلمات في حياتنا السابقة.”

تابعت صديقتي اعترافاتها غير آبهة لي ولتساؤلاتي: “لا أخفيك القول أنني أشعر بفعل الخيانة، الخيانة لنفسي القديمة.. لحياتي الماضية، لوطني ولاسمي الأصلي. ماذا لو أنني فعلاْ قد بدأت بالتأقلم مع هذه الحياة الجديدة؟ ماذا لو بدأت حياتي السابقة بالانسحاب من أيامي الراهنة وانكفأت في درج الذكريات؟ هذه الذكريات التي تراودني الآن بحيادية مطلقة دون أن تزعجني. ماذا لو أنني دخلت في عالم بلادة الأحاسيس ومتاهة اللاشعور وبالتالي فقدت الإحساس بالألم؟ “

أشاحت صديقتي بنظرها عني ورأيتها تنظر بعيداْ ما وراء السحاب والسماء وكأنها تريد أن تلتقط إشارة ما من بعيد، وتابعت :

“وماذا بعد؟ ماذا يخبئ لي القدر بعد؟ ماذا يأتي بعد مرحلة فقدان الإحساس بالحنين والألم والحزن؟ ما هي المرحلة التي سيقدر عليْ أن أعيشها؟ وكيف سأعيشها؟

 نظرت إلي بحيرة وهي تنتظر جواباْ صريحاْ، وددت لو أقول لها: “يا صديقتي إنك تنتظرين مني جواباْ لسؤال صعب لا أملك الإجابة عليه ولا أحد غيري يمكنه ذلك..”

 ولكنها انسحبت بكل هدوء بدون أن تودعني، أما أنا فقد ابتسمت بيني وبين نفسي ليقيني التام أن هذه السيدة قد تجاوزت مرحلة العشق والغرام.

اقرأ/ي أيضاً:

زاوية يوميات مهاجرة 6: إدمان..
زاوية يوميات مهاجرة 5: سأروي حكايتي
زاوية يوميات مهاجرة 4: مرحلة العدم

السجن المؤبد لرجل دفع ورمى رجل مسن في مترو أنفاق لندن “فيديو”

تأسيس “اتحاد الطلبة المنفيين” دعماً لحلم المهاجرين بالدراسة في فرنسا