in ,

بين ثورتين : واحدة مهزومة وأخرى مستحيلة

كعكة عيد ميلاد الثورة للفنان مصطفى يعقوب

عمر قدور* ضمن ملف ذكرى الثورة

لا دلالة أبلغ من أن تمر الذكرى الثامنة لانطلاق الثورة مع شعور عام بالمرارة في أوساط الذين آمنوا بها، ويصح القول بأن قسماً من هذه المرارة كان واضحاً أيضاً في السنة السابقة، حين أعقبت الذكرى تسليم مدينة حلب لتنظيم الأسد وحلفائه، مثلما تزامنت هذه السنة مع اقتحام الغوطة وتهجير أهلها.

من المؤكد أنه ثمة حرب قد انتهت بهزيمةٍ كبرى، وإن بقي جزء من آلتها يخضع مباشرة لنفوذ دولي أو إقليمي، مع معرفتنا السابقة بخضوع الحرب منذ خمس سنوات تقريباً للتجاذبات الدولية والإقليمية وابتعادها عن منطق إسقاط النظام والأجندات الوطنية للفصائل المحسوبة على المعارضة.

فوق ذلك؛ تشير الوقائع الميدانية إلى تقاسم النفوذ والهيمنة في البلاد، بحيث يصعب الحديث عن بلد واحد، ما يُفترض أن يكون شرطاً لازماً لأي حديث عن ثورة وطنية. يتلازم هذا التقسيم الميداني مع انقسام أعمق منذ بداية الثورة بين جمهورها وجمهور الموالاة، ومن ثم الانقسام العربي-الكردي، لكنّ مؤداه الأعمق حالياً وجود إحساس عام بأن القضية السورية قد خرجت نهائياً من أيدي السوريين، وبأنهم مهما فعلوا لن يتمكنوا من استلام زمام المبادرة ثانيةً.

لكن، في المقابل من ذلك كله، يظهر أيضاً معنى بقاء تنظيم الأسد مع حلفائه في نصف سوريا تقريباً، وأيضاً معنى الوجودين الأمريكي والتركي فيما تبقى منها. فالحال في أماكن سيطرة الأسد يوضح باطراد أن مقومات الثورة تتراكم نظرياً، وبما يفوق أسبابها عام 2011، مع استحالة اندلاعها وقد رأى المتضررون المآلات المرعبة التي حلّت بسوريين آخرين وما تزال. لندع هنا تظاهرات النصر التي يعلنها شبيحة الأسد للتغطية على الواقع المزري، فهذه أيضاً سيكون مفعولها قصير الأمد، وستظهر في المدى القريب الآثار الباهظة جداً لوهم الانتصار. أما في أماكن الوجودين الأمريكي والتركي فالحال أفضل، فقط بمعنى الابتعاد عن القصف الوحشي لقوات الأسد والحليف الروسي، إلا أن واقع التغيير الديموغرافي، واستخدام فصائل محلية كقوات احتلال هنا وهناك، مع الانتهاكات المرتكبة من قبلها؛ هذا السجل بأكمله يُراكم عوامل الثورة أكثر مما يُحسب لها.

يحوز القول أننا نقع في لحظة حائرة بين ثورتين، واحد هُزمت وأخرى غير ممكنة. في معنى الهزيمة؛ يلزم أن نتخلص من الإنشاء الذي يردده البعض حول أن الثورة ذاتها مستمرة، لأن الحديث هنا ليس عن أشخاص ظلوا على إيمانهم بأهدافها، وإنما عن آليات عمل محددة. فهياكل المعارضة الممثِّلة للثورة فشلت جميعاً على نحو ذريع فوق تشتتها وعداواتها البينية، والفصائل المسلحة فشلت جميعاً على نحو ذريع، لا بسبب افتقارها إلى حلفاء وخطوط إمداد كافية فقط، وإنما أولاً بسبب تشرذمها، وازدهار منطق إمارات الحرب، فضلاً عن اعتماد تكتيكات الحرب النظامية بآثارها الفادحة على المدنيين وسط لامبالاة عالمية. لقد كنا نردد منذ البداية أن نقد الثورة هو جزء من الثورة، وربما يلزمنا بقوة اليوم القول أن الاعتراف بالهزيمة عتبة ضرورية للتفكّر فيها.

في الثورة غير الممكنة الآن:

لن يكون منصفاً أو حتى أخلاقياً مطالبة الواقع السوري المنهك من حرب وحشية بإشعال ثورة جديدة، فلا استعداد تنظيم الأسد لمزيد من الوحشية يسمح بمثل هذه المطالبة، ولا الوضع الدولي أو الإقليمي الذي ثبت أنه لا يقل وحشية يشجع على ذلك. أيضاً، ما زلنا في صدد الحديث عن انقسام حاد يمنع التفكير في أي التقاء وطني ضمن الحد الأدنى، ومن المبالغة تخيّل إمكانية هدم الجدران بين السوريين، القديمة منها والمستجدة. حتى القوى المتبقية في الداخل المساندة للثورة هي اليوم في أضعف حالاتها، وأشدها عزلة ويأساً، وما لم يحدث تحول دراماتيكي من المرجح أن يعبّر الواقع عن نفسه بأسوأ أنواع العنف والجريمة، بوصفها تصريفاً لبؤس الواقع وانسداد آفاقه.

في موضوع الهزيمة…

ربما يتوجب التنبيه إلى ردَّيْ فعل متناقضين شكلاً، الأول هو إنكارها التام، والثاني هو الإذعان التام لها. فَهْمُ هذين الوجهين ليس صعباً بعدّهما من آليات الدفاع النفسية الشخصية، فالإنكار والإذعان التامَّيْن كل منهما مقلوب الآخر، لكنهما تعبير عن جذر واحد هو الإحساس بالعجز التام. في حالتنا لا يندر أن يكون واحد من الوجهين، كلٌّ في موقعه، تعبيراً عن موقع سلطوي. كأن نرى في المعارضة أفراداً أو حتى قوى تنكر الهزيمة “أو تلقي باللائمة كاملة على الخارج” لتبرئة النفس والحفاظ على مواقع السلطة المعنوية أو المادية، أو أن نرى في المقلب الآخر من يريدون ركوب موجة الانتصار، أو حتى يريدون شراء أمانهم الشخصي بالولاء.

الشروع في تجربة نقدية عملية ربما وحده الذي يُنجي من أكثر المآلات بؤساً، وربما وحده الذي يتكفل بإقامة جسر مفاهيمي بين ثورة مهزومة وأخرى تبدو مستحيلة. المعنيّون أولاً بهذه التجربة هم أولئك الذين انتموا إلى الثورة، لكنهم غالباً أقصوا أنفسهم، والبعض أُقصيَ بطريقة أو أخرى، عن مواقع الفاعلية فيها.

وليس المقصود بالتجربة النقدية الاكتفاء بمراجعات نظرية تمتد إلى ما لا نهاية، وقد تتفاقم على الطريقة السورية مخلِّفةً المزيد من الانقسامات لأسباب تفصيلية تافهة؛ هذا أيضاً مما ينبغي مراجعته سريعاً. في الأساس، وفي حالة شاذة حقاً، نحن منذ سنوات أمام استنكاف عام عن الانتظام في مشروع سياسي وطني، بينما تُرك أمر ذلك إلى قوى دولية فرضت بمشيئتها مؤسسات لتمثيل الثورة، سواء بهياكلها أو أفرادها. في حالة شديدة الغرابة لم يمتلك أبناء الثورة إطارهم الديموقراطي التمثيلي، ليقدّموا من خلاله نموذجاً مشجعاً لسوريين آخرين.

ما شهدناه حتى الآن من محاولات خروج من الواقع السياسي للثورة كان محكوماً بالفشل، مردّ ذلك إلى اليأس من جهة، لكن من جهة أخرى ذات تأثير أكبر مردّه لكون أغلب المبادرات أتى من شخصيات ذات مساهمة حثيثة في الوضع السابق. وهنا ينبغي الإقرار بأن الحجارة القديمة لم تعد صالحة لبناء جديد، وبأن ما يُسمى جيل الثورة توزع بين مستنكفين وآخرين تم إقصاؤهم، وما بينهم شريحة جرى إفسادها بفعل المعارضة نفسها أو بفعل منظمات دولية فكّت الارتباط بينهم وبين الواقع السوري.

الهزيمة الفعلية ليست في ميدان الحرب، هي على الصعيد السياسي لتمثيل الثورة وأهلها، وفي فقدان القرار السياسي بينما لم يعد القرار العسكري مُمتلكَاً في الحد الأدنى منذ خريف 2012. الخبر الجيد ربما هو أن المملكة الأسدية في حكم الساقطة، والصراع الآن بمجمله حول ما بعدها. إلا أن حديثنا عن تغيير ديموقراطي في سوريا يبقى في إطار الشعارات، ما لم تكن هناك قوى ديموقراطية منتظمة وواضحة المعالم والأهداف، وحتى مع وجودها لن يكون النجاح السريع مضموناً، بل ربما يمكن القول أن أفضل ما يمكن عمله اليوم هو ما ينفع لتكون الثورة التالية ممكنة ولديها فرص أفضل للنجاح.

عمر قدور* كاتب روائي سوري

 

اقرأ أيضاً:

سبع سنوات على الثورة السورية: سوريا إلى أين؟ 

محاولات سرقة الثورة السورية كما أحصيتها حتى الآن

في الذكرى الخامسة لانطلاقتها “الثورة السورية نجاحاتها وإخفاقاتها”

الزاوية القانونية : الإجراءات المتبعة في القانون الألماني لحماية المرأة

بالفيديو: اكتشاف العضو الأكبر بجسم الإنسان.. قد يعطي الأمل بعلاج المرض الأعند