in

ابنتي وأنا وأنغيلا ميركل

school

ميديا داغستاني*

بالفضول الطبيعي لدى الأطفال كانت ابنتي “زِيا” تقرأ، ونحن نسير في الشارع، إعلانات المرشحين للانتخابات البرلمانية الألمانية التي ستجري قريباً مع أسماء الأحزاب والشعارات وتسألني عنهم، وعن معاني بعض التعابير التي تستعصي عليها. السؤال الأهم هو الذي أتى تالياً: “ماما إنت مين رح تنتخبي؟”.

رغم أن كلمة تنتخبي هكذا مرفقةً مع ياء المُخاطَب والذي هو أنا في هذه الحالة قد بدت لي غريبة (أجنبية)، إلا أنني بصفتي أم اضطررت للتماسك والإجابة: “أنا لست ألمانية، ولا يحق لي الانتخاب” وأتبعت إجابتي بشرح عن الفارق بين المواطن والمقيم و أنواع الإقامات والحقوق وغيرها.

قبل الانتخابات بأسبوعين وبينما كنا عائدتين إلى البيت ستخبرني زيا بتفاخر ظاهر: “ماما أنت لا تستطيعين الانتخاب ولكن أنا أستطيع. اليوم شرحوا لنا في المدرسة عن الأحزاب المرشحة، وأخبرونا أن كل طفل في ألمانيا سواء كان ألماني أم لا، يحق له التصويت. وقالوا أن هذه الأصوات لن تحسب ولكنهم يهتمون بمعرفة رأينا”.

وهكذا صارت الانتخابات الألمانية حاضرةً في بيتنا يومياً، ولا بأس من الاعتراف أنها كانت مناسبةً لي، كي أعرف أكثر عن البرامج الانتخابية للأحزاب، بما كانت زيا (10 سنوات) تضيفه لمعلوماتي كل يوم. “ماما اليوم جاؤوا إلى المدرسة وطلبوا منا التصويت، ووضع الأوراق في الصندوق دون أن يرى أحد ما نكتب، قالوا إنه صوتنا ويجب ألا نخبر أحداً عن قرارنا، لأن هذا حقنا واختيارنا”.

بعد قليل من التمنع ستخبرني ابنتي أنها صوتت للاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU). “لأنو حزب أنغيلا ميركل وأنا بحبها وبحب كل شيء بتقوله”. وزيادة بالتبرير لقرارها، بدأت بتعداد عدد من الأحزاب وشرح بسيط (يتناسب وعمرها): “ماما أنا بحب حزب الخضر بس البيئة ما هيي كل شي بالحياة…..”.

كانت زيا تتابع حديثها، وأنا استحضر في ذاكرتي المدرسة والبدلة العسكرية التي كنا نرتديها، ومدربات التربية العسكرية (الفتوة). العقوبات والإهانات، والاتهام بالوقاحة وقلّة الأدب عند إبداء أي رأي. تذكرت مدرسة الديانة في الصف الثامن الإعدادي وكيف طردتني من حصتها لفصل كامل بسبب سؤالي عن القضاء والقدر وعن معضلة الإنسان إن كان مخيراً أم مسيراً، التي لم أفهمها حقاً. قالت أستاذة الديانة أن سؤالي فاسد، في البيت قال أبي ليس هناك من سؤال فاسد في الحياة.

زيا تتابع شرحها وأنا أفكر، لطالما كنت سيئة ووقحة وقليلة أدب بالمقاييس السورية، ولطالما كرهت القوانين، وسعيت لمخالفتها. أرتدي كنزة سوداء بدل العسكرية، أفرد شعري، وأحرص على عدم اعتمار القبعة (السيدارة) العسكرية. لدي صعوبة في تذكر عدد المرات التي فصلت فيها من المدرسة، أو أُهنت وعوقبت “مشية البطه”. مشية البطة؟ مصطلح ربما لن يعرفه سوى من كان طالباً في المدارس السورية في زمن البعث والأسد.

أحاول اليوم وأنا هنا في ألمانيا، أن أفهم كيف لطفلٍ أن يعيش في ظل هذا النظام القمعي القائم على تحقير وتبخيس مقدراته، بل وحتى أسئلته؟ كيف يمكن لطفلٍ كهذا أن يكون سوياً فيما بعد؟ كيف لحياة قائمة برمتها على القمع من الأسرة إلى المدرسة ثم إلى عموم الدولة، أن تكون سويّة؟. عنفٌ منزلي ومدرسي، ومعايير يحددها الأب (تقابله في المدرسة آنسة الفتوة) لما يجوز وما لا يجوز. عقوبات في البيت وفي المدرسة، لينتهي الأمر بسلطة كاملة في البلد قائمة على القمع والاستبداد.

اليوم، وأنا أرى ابنتي بكل ما تملكه من ثقة بالنفس، وبمدى إدراكها لأهمية وجودها عموماً، وأهمية صوتها الانتخابي وهي مازالت في العاشرة، وهي تجيد الشرح عن التمايزات بين الأحزاب الألمانية، أخبئ دمعتي عنها، وأحلم أنه في يوم ما، سوف تذهب لجنة انتخابية لتدرب الأطفال في مدرسة ابتدائية سوريّة على أن يكون لهم صوت، مجرد صوت.

*ميديا داغستاني ناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان مقيمة في ألمانيا. تكتب في المواقع العربية، ولها تحقيقات صحفية مترجمة للألمانية.

اقرأ أيضاً:

لمن هذا الشارع؟

عن بطاقة الحماية المؤقتة في…

تحميل العدد الثاني والعشرين من أبواب بصيغة PDF

راهيم حساوي، الإشكاليّ دوماً “أنا حاقد في أعمق أعماقي”