in

نحو قيادة سياسية

على الرغم من الحالة الضبابية التي يعيشها اللاجئون، سواء من حصلوا على إقامة أم من هم في “برزخ” الانتظار، والذي تدرس الحكومة الألمانية تخفيضه من ثلاثة أشهر إلى ستة أسابيع، دون أي تفسير قانوني لبقاء الكثير من الاجئين معلقين بين “الكامب” و”المحكمة” لأشهر تتجاوز الثمانية أو التسعة أشهر، بالرغم من كل هذه الضبابية التي تكاد تسيطر على تفكير اللاجئ، وتحصره في خوفه من المستقبل، وتغيرات القوانين، ونتائج الانتخابات، وحواجز اللغة، وإحساسه الذي تكرسه القوانين وطلسميات “الاندماج”، فإنّ كل تجارب الهجرات السابقة في العالم، والتي قامت بها شعوب تعرضت للاضهاد والعنف ومآسي الحروب، كالصينين والإيطاليين وشعوب أمريكا الجنوبية وبعض دول أفريقيا، تخبرنا أن إفراز الجاليات لقيادات سياسية واجتماعية في بلد اللجوء، أو المهجر، هو أمر ضروري وحيوي على المدى الطويل لحماية حقوق الجاليات، بل وحتى لتعريفها بهذه الحقوق، ولإيصال صوتها إلى مراكز صنع القرار، في الدول التي يعيشيون فيها.

وقد يكون اللاجئ العربي أسير مخاوف ترقى إلى “الفوبيا” من العمل السياسي، والعاملين في السياسة، فتجربته في بلاده ملئية بالخيبات والإحباط من السياسة والسياسيين، ولم تستطع ثورات الربيع العربي أن تحسّن انطباعه عن المشتغلين في هذا القطاع، لكن طبيعة الحياة في أوروبا، تفرض بالضرورة، وجود ممثلين سياسيين ونشاط سياسي، يفرزه اللاجئون، ويعبر عنهم.

ولعلّ أصعب ما في آلية تحقيق هذه الحاجة هو انعدام التجارب السياسية الحقيقة في الأوطان الأصلية، والافتقار البائس لممارسة العمل السياسي فيها، وانعدام ثقافة المطالبة بالحقوق، وتحقيق التغير، عن طريق الأحزاب والحركات المدنية.

قد يكون الاحتمال الأقرب لأرض الواقع، في المرحلة الأولى من تشكل هذه القيادات، هو بروز مجموعة من الناشطين في المجالات الإعلامية والثقافية، إضافة إلى رجال الأعمال الذين يتصدرون المشهد عادة، إضافة إلى الزعامات الدينية التقليدية. وعلى صعوبة منافسة النوعين الأخيرين، فإن أمام اللاجئين فرصة نادرة للعمل على إفراز نمط جديد من القيادات تكون الأهمية الأولى فيه للعمل لا للشخص. نمط مبني على حالة فكرية تؤسس لاحقًا لحالة مؤسساتية متكاملة.

وسيضمن التركيز على فكرة القيادة، وأسلوبها، وآليات اتخاذ القرار فيها، بدل النمط التقليدي السائد بالتركيز على صفات القائد، سيضمن هذا التركيز: عمل القيادات بطريقة سليمة، والأهم: استمرار العمل في حال توقف أي فرد عن مهامه لأي سبب.

ربما يكون مفتاح تكوين هذه القيادات، هو بدء اللاجئين بمعرفة حقوقهم، فهم قادمون من بلاد لا يحكمها القانون، ولا وجود فيها لثقافة حقوق المواطن الفرد، إضافة للعوامل النفسية التي تحكم عملية اللجوء زارعة مخاوف لا مبرر لها في كثير من الأحيان في اللاجئ، فهو يرى نفسه مستضعفًا غريبًا معتادًا أن يكون الشرطي والقاضي وحتى موظف الدولة العادي: ديكتاتورًا صغيرًا، يضاف إلى هذا كله حاجز اللغة الذي يزيد الجهل جهلاً.

معرفة الحقوق، ومعرفة أنها مصانة بقانون لا يمكن اختراقه، هي الخطوة الأولى في طريق المطالبة بها. والتجمّع في كتلٍ بشريّة سيجعل صوت المطالبة أعلى وأشدّ تأثيرًا، وفي هذه المرحلة بالذات: سيكون إفراز قيادات اجتماعية وثقافيةٍ بدايةً، ثم سياسيةٍ بالضرورة خطوة حتميةً لإيصال صوتٍ واحد، واضح، وحاسم، يعبّر عن هذه التكتلات الوافدة، بل وسيكون ضروريًا لزيادة اطلاع اللاجئين على حقوقهم، حيث أن هذه القيادات ستكون بحكم عملها وتفرغها له، أكثر إطلاعًا على القوانين، ولعلها ستستطيع يومًا، رفع سقف الحقوق، وتملك تأثيرًا فعّالًا لتغيير القوانين التي قد تكون مجحفةً بحق اللاجئين.

وكأيّ مجتمع يفرز قياداته، ستبرز دائمًا مشاكل الثقة التي تكاد تدخل في جيناتنا نجن اللاجئين، نتيجة مرارة التجارب في بلادنا، والتي تزرع فينا إحباطًا انهزاميًا أمام أية محاولة للتكتل وإفراز القيادات، ربما لن نشفى منه بسهولة، وعلينا أن نترك للزمن دوره العلاجي، ونعمل بدورنا، على فهم ثقافة الرقابة، والمساواة، وحقيقة دور القيادات، وأن الفكرة السائدة عن امتيازاتها هي مجرد وهم، فالقيادات هي لخدمة من اختارها، بلا قدسية أو حتى احترام خاص، بشر متساوون مع الآخرين في الحقوق والواجبات العامة، بل وإنهم بحكم قبولهم بهذا الدور عرضة للمساءلة الدائمة والرقابة الشديدة، متخلين بذلك عن حيّز لا بأس به من حريتهم الشخصية.

عن “العمل الأسود” لـ “دينا أبو الحسن”: باطلٌ (قد) يراد به حقٌّ

ماذا يأكل الألمان (2) “المونة وخيرات السنة”