in

من لا يغادرهم الوطن حتى لو فارقوه: الكاتب رفيق شامي مثالاً

اللوحة للأستاذ الراحل الحاضر نذير نبعة

أحمد يحيى محمد

عندما غادرتُ دمشق، حملت معي كغيري ذكرياتي الدمشقية، وأودعتها أعمق مكانٍ في الذاكرة. كان طيف دمشق يطاردني في اليقظة والأحلام، وكثيراً ما أربط الصور التي أشاهدها ـ بقصدٍ أو بدون قصدـ بمثيلاتها في دمشق.

وكان السؤال الذي يراودني دائماً: هل سنبقى محتفظين بذلك الكَمّ الهائل من الذكريات والحبّ اللامتناهي؟ أم أن الأيام كفيلةٌ بالوصول إلى أغوار الذاكرة، وانتشال الذكريات العالقة في قعرها مهما بدت سحيقة؟!

ربما يمكننا أن نستشرف المستقبل، إذا قرأنا جزءً من سيرة الكاتب (رفيق شامي)، الاسم الذي تفوح منه رائحة الياسمين الدمشقي، والذي رافق الكاتب طيلة مسيرته حتى بات لا يُعرف إلا به، بينما اسمه الحقيقي سهيل فاضل.

وُلد رفيق شامي في دمشق عام 1946، ودرس الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ثم غادرها إلى ألمانيا حيث نال الدكتوراه في الكيمياء عام 1979، وتفرّغ بعد ذلك للعمل الأدبي، حيث حازت رواياته نجاحاً كبيراً في ألمانيا وغيرها، وتُرجمت أعماله إلى 30 لغة، وتصدّرت بعض رواياته قائمة المبيعات في ألمانيا، وحصل على عشرات الجوائز في ألمانيا وخارجها، ولعل أشهر رواياته “حكواتي الليل”، التي تجاوزت طباعتها المليوني نسخة، وحصدت ست جوائز أدبية، بينما كانت أضخم رواياته “الجانب المظلم للحب”.

الحديث عن رفيق شامي وأعماله يطول، لكن الذي يعنيني الآن، ذلك الجانب الدمشقي الذي ظل محتفظاً به، رغم مغادرته لدمشق منذ أكثر من أربعين عاماً. هل قلتُ جانباً دمشقياً؟! في الحقيقة إن رفيق شامي لا يملك في داخله إلا تلك الشخصية الدمشقية، فهو ببساطة لم يخرج من دمشق، إنما أخرج دمشق معه كما يقول، ولعله السرّ الذي يكمن وراء وصفه الدقيق لدمشق، بحاراتها وأزقّتها وأسواقها ودكاكينها وبيوتها، كل التفاصيل الدمشقية عنده مهمة، ولها مكان الصدارة في رواياته، بدءً من الأمثال الدمشقية، التي تعبر عن ثقافة أهل دمشق وحسّهم الفكاهي. فلكل حادثةٍ مَثًلٌ جاهزٌ يقطع معه كل بيان، انتقالاً إلى ثرثرة الجيران، وسرعة انتشار الشائعة وتضخّمها، إلى حكايا الحلّاقين وصيحات البائعين. يدخل في رواياته إلى مساجد دمشق وكنائسها، إلى حمّاماتها وأسواقها، ينقل المساومة بين التاجر والزبون حتى كأنك تشاهدها. يغرق في أدقّ التفاصيل حتى تصل إلى حافّة الضياع، إلا أنه يظلّ ممسكاً بحبال قصّته، ويعود بك فجأةً إلى أحداثها الرئيسة، ويأخذ بيدك حتى تتابع معه القصّة، دون أن تشعر بالملل أو تخشى الضياع.

هكذا تمكّن رفيق شامي من أن يجعل دمشق مسرحاً لكل رواياته، وأهل دمشق هم أبطال تلك الروايات، التي لا تشكُ في لحظةٍ من اللحظات أنها قصصٌ حقيقية، عاش تفاصيلها، وكان شاهداً على كل حدثٍ من أحداثها، حتى سجّل كل كلمةٍ سمعها بصدقٍ وأمانة.

وبهذا استطاع رفيق شامي أن يُعرّف القارئ حيثما كان على الثقافة السوريّة والدمشقية على وجه الخصوص، بكل ما فيها من أصالةٍ وعمق، أو عفويّةٍ وطيبة، وذلك بأسلوبٍ سلسٍ، ولغةٍ جميلةٍ، تعبّر عن فكرٍ خلّاق، وأفقٍ واسعٍ، وخيالٍ يتجاوز به الحدود، ويثور فيه على كل القيود.

كان رفيق يحاول بكلماته أن يضمّدَ جراحه، لعلّ تلك الكلمات تشفي غليله، أو تُخمد جذوة حنينه لوطنه، إلا أن كتاباته كان لها ـ كما يقول ـ أثرٌ عكسيٌّ، فلم يزدد إلا شوقاً، ولم تزد ناره إلا اضطراماً.

وهكذا عرفتُ أن الغربة لا تمحو ذكريات الأوطان، وإنما تزيد معالمها وضوحاً ورسوخاً، وأنّ أدب المهجر، هو دوحة وطنٍ يعيش فيها من رفض أن يخرج من وطنه رغم غربته، وأنّ الحنين داءٌ لا ترياق له، وأن الكلمات التي يكتبها الشعراء والأدباء عن أوطانهم، إنما هي مسكّنات أدمنوها، فلا شفاء لهم بها، ولا غنى لهم عنها.

أحمد يحيى محمد /  كاتب وباحث سوري  مقيم في ألمانيا

اقرأ أيضاً:

“الهوية الوطنية” الإشكالية المتجددة

بالاحترام والأمان والاستفادة من الفرص .. هكذا يجد الوطن طريقه إلينا

رسالة من الأهل . . من الوطن

” الوطن المخيم “

 

هل على النشيد الوطني الألماني أن يصبح أقل ذكورية؟

هل هناك جدوى من “بوابة الحكومة الألمانية لتبديد الشائعات حول اللجوء”؟