in

في رحيل سلامة كيلة: الوفاء لماركسية الفكر والثقافة والوعي

 

طارق عزيزة*

 

سلامة كيلة الثوري المتفائل

يبدو أنّ موسم الحزن السوري بلا نهاية، فقائمة الراحلين في المنافي القسرية إلى ازدياد، ومنهم الكاتب “سلامة كيلة”، الماركسي الفلسطيني العروبي والسوري أيضاً، وهي أوصاف تُخبرنا بها عشرات الكتب التي ألّفها، وتتوزّع مواضيعها على الماركسية وفلسطين والأحوال العربية والثورة السورية، فضلا ًعن تقديمه لنفسه بها.

لم تكن تجمعني مع الراحل علاقة أو معرفة مباشرة للأسف، مع ذلك تعود معرفتي بـ”سلامة كيلة” إلى نحو خمسة عشر عاماً مضت حين قرأته أول مرة. فهي إذن معرفة فكرية، إن جاز التعبير، بدأتْ مع كتابه “مشكلات الماركسية في الوطن العربي”، (صدر في دمشق 2003، عن دار التكوين)، وفيه تحدّث عن أزمة “الماركسية العربية”، مبيّناً الإشكاليات ومواطن الفشل والخلل التي تعتورها.

غير أنّه لم يفعل ذلك ليصفّي حسابه مع الماركسية، ويهجرها إلى ضربٍ من “ليبرالية” شوهاء، على نحو ما فعل في آنذاك متمركسون كثر، أفراداً وأحزاباً. على العكس من ذلك ظلّ “سلامة كيلة” من موقعه النقديّ ذاك متمسّكاً بالماركسية على طول الخط، كمنهج في التفكير وأداة تحليل وبحث، مؤكّداً أنّ مهمتها لا تزال تفسير الواقع وتغييره معاً، داعياً إلى الانتقال من “الماركسية الأكاديمية” التي تهرب من الصراع الاجتماعي وتتحول إلى “مراكز استشارة، إلى ماركسية مناضلة تصبح جزءاً من الصراع الطبقي ومن “الماركسية العامية” التي تحارب الفكر والثقافة والعلم والوعي، وتقلّص الماركسية إلى بضعة أفكار مبسّطة مبْتَسرة، إلى الماركسية “بما هي علم وبالتالي فكر وثقافة ووعي”، وفق تعبيره.

على هذا النحو كان الماركسي العنيد منسجماً مع أطروحاته النظرية عندما اندلعت الثورة السورية أواسط آذار/ مارس 2011، إذ انخرط في ثورة الشعب في الحال، سواء على صعيد الكتابة والنشاط الإعلامي، أو النشاط المباشر على الأرض من خلال العمل مع مجموعات من شبّان التنسيقيات، وتأسيس تنظيم باسم “ائتلاف اليسار السوري”، ثم إصدار نشرة باسم “اليساري” في الذكرى السنوية الأولى للثورة.

كانت “اليساري” السبب في اعتقاله على يد مخابرات نظام الأسد بعد حوالي شهر من بدء صدورها، وذلك إثر اعتقال أحد الشبّان الذين لهم صلة بالموضوع، وذكر خلال التحقيق اسم “سلامة كيلة” ودوره في إصدار النشرة، التي أثار محتواها السياسي الثوري حفيظة جلاوزة النظام، فهل من شعار يفضح زيف “المقاومة” المزعومة والمتاجرة الأسدية بقضية فلسطين أكثر من القول: “من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام”.

بالرغم من مرضه وسوء حالته الصحّية تعرّض الراحل للتعذيب، لكن الاعتقال لم يطل هذه المرّة (وكان سبق أن اعتُقل لثمانية أعوام من 1992 حتى 2000 على خلفية علاقته بحزب العمل الشيوعي)، ذلك أنّ النظام قرّر ترحيله من سوريا إلى الأردن، فهو فلسطيني لا يمكنه العودة إلى فلسطين ويحمل وثائق سفر أردنية، فكان إبعاده عن دمشق أشدّ وطأةً من الاعتقال نفسه، وفق ما صرّح “به سلامة” في أكثر من مناسبة.

مما تميّز به موقف “سلامة كيلة” الثوري، أنه خلافاً للكثير من “اليساريين” و”العلمانيين” الذين ارتموا في أحضان الإسلاميين أو تحالفوا معهم أو برّروا ارتكاباتهم، بزعم أنهم “جزء من الثورة” أو حتى لغايات سياسوية أو حزبية ضيّقة، بقي “سلامة” متمسّكاً بموقفه الجذري من “الإسلام السياسي”، فهو يرى في هذه الجماعات ومشاريعها امتداداً للأنظمة التي ينبغي تغييرها، وليست بديلاً لها في أي حال.

على العموم، سواء اتفق المرء أم اختلف مع آراء “سلامة كيلة” وأفكاره وتوجهاته، سيبقى من الضروري الإفادة من الجهد الكبير الذي بذله الراحل، وضمّن نتائجه في عشرات المؤلفات التي خلّفها لنا. فهو إلى جانب ما عُرف عنه من اجتهاد في العمل وغزارة في الإنتاج، كان من موقعه كمثقّف وسياسي ومناضل حريصاً على الخوض في شتى المجالات التي يرى أنها ترتبط بميدان نضاله السياسي والفكري، لذلك ستجد في مؤلفاته الهمّ الطبقي والفلسطيني والسوري وسواها.

لكن مهما اختلفت الموضوعات التي تناولها وناقشها في كتاباته وحواراته، فإنّ ثمة ما يخيّم عليها جميعاً: إنه نفسٌ ثوريّ متفائل، يعبّر عمّا كانت عليه روح صاحبه بكفاحيّته التي لا تلين. التمسّك بهذا النفس أفضل إحياءٍ لذكراه.

  * كاتب سوري من أسرة أبواب

 

اقرأ/ي أيضاً للكاتب:

أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي

سوريا: لاجئون وداعش!

بيان صحفي صادر عن المركز الأوربي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR

تبني بدون زواج ودورات موسيقية للمؤذنين: هل تكمل تونس مسيرتها الحضارية؟