in

الهدف: أن يجعلوا وجودك بينهم مؤلمًا

نوال السباعي | كاتبة سورية

عندما استقلّت تلك الفتاة الإيكوادورية مترو برشلونة في ذلك اليوم من عام 2007، لم تتوقع أن يعتدي عليها متوحش عنصري، فيلطمها بحذائه على وجهها ويلكمها ويتحرش بها، وهو يتحدث متندرًا في هاتفه: “إنني ألْكُم ساقطة جنوب أمريكية، ليتكم ترونها وهي تبكي!” قبل نزوله من المترو ليختفى عن الأنظار.

عند اعتقاله ومحاكمته ادّعى أنه كان ثملاً، وبعد أن تمّ الإفراج عنه بكفالة، راح يوزع المقابلات “التهريجية” على وسائل الإعلام، متفاخرًا بما فعل، ولم يرعوِ ويختفِ من المشهد، إلا بعد أن هددته العصابات جنوب الأمريكية في إسبانيا بالقتل.

عشت في إسبانيا ثلاثين عامًا، أشهد غرق المهاجرين الأفارقة، يحاولون اجتياز المضيق الفاصل ما بين الاستبداد والحرية، ما بين الحياة والموت، ما بين الظَلام والظَلام، وما بين الظُلم والظُلم.

أخرجهم بالأمس “التعفن” ، تتناثر جثثهم على الشواطئ، تحفر في الأرواح بُؤَر خرّاجات لا تندمل، واليوم تُخْرِجُ السوريين من بلادهم الحربُ.

ألف سبب للهجرة، ومصيرٌ واحد: الموت غرقًا أو قهرًا!

فهنا إن نجوت، أنت “مهاجر”، “لاجئ”، تُجَرِدُك الهجرة من اسمك ومن “إنسانيتك”، التي طالما تغنى بها القوم وهم يخوضون حروبهم البينية باسمها.

من هذا الذي يخرجه جوعه إلى الخبز من بلاده ليقتحم لجج الموت؟! لا يُخْرِج الناس من بلادهم إلا الجوع لأن يُعاملوا كبشر، الجوع إلى سلطة تمنحهم الأمن والرعاية، الجوع إلى حياة طبيعية وموت طبيعي هربًا من النهايات غير الطبيعية!

لا شيء في تلك البلاد النائية عن جُزر الجنّة الغربية، يوحي بأن فيها أي شيء طبيعي! أمريكا اللاتينية، كأفريقيا، كمنطقتنا الناطقة بالعربية، استعمار، وتدمير، وتجويع، وحصار، ونهب للثروات والهوية والإرادة.

كثير من هذه الشعوب تتشارك مع مستعمريها أسباب بلائها، لم تغتنم فرصة عقود “الاستقلال”، توقفت عن “النمو”، خمدت روح الكفاح لدى أبنائها، وعجزوا عن تجديد ثقافاتهم وضخ روح الحياة في حضاراتهم، إلا أن دور المستعمِرين كان أكثر من مفضوح، في تكسير أرجل هذه الشعوب، ومنحها الحق في تصنيع مجرد كراسي عجلات.

تلكم اللكمات على جسد الصبية الإيكوادورية، كانت لكمات موجهة إلى وجود كل مهاجر في الغرب.

كثير من وسائل الإعلام الغربية مسؤولة عن تغذية هذه الفقاعات العنصرية الإجرامية، ما فتئت تنفُخ في قُرَب الكراهية ورفض الآخر الآتي من وراء الحدود، لا لأي سبب حقيقي مفهوم، إلا أنه {“الغزو البشري” الذي يريد أن يهدم صرح قيم الحضارة الغربية، ويقوم بتدمير أوروبا}! ، هذا ما يردده –حرفيا- مئات من صنّاع الرأي في حواراتهم اليومية، لتدمير أي محاولة جادة من كلا الطرفين لبناء الجسور وهدم الأسوار.

بُعيد حربيه العالميتين، عاش الغرب مهيمنًا على العالم، مجعجعًا بشعارات الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، لكن حقبة صعوده الإنسانية الثقافية الفكرية، لم تصمد طويلاً أمام امتحانيّ “اقتصاد السوق” و”هجرة المنكوبين” إليه، فبدأت إرهاصات انتكاسته منذ أواخر القرن العشرين ودون توقف.

سقطت في أوربا كل شعارات الثورة الفرنسية، لا إخاء هُنا، ولا مساواة لك مع المواطن البتة، لا حرية يمكنك أن تتمتع بها تحت ضغط الكراهية الرهيب، لا كرامة، وبالتالي لا حصانة.. أنت معرض دائمًا للأذى، وما يُمنح لك من حقوق بنص الدساتير، يُستَلب منك بالرفض والإقصاء.

كثيرون من الغربيين يتمتعون بحسّ أخلاقي إنساني ويتعاطفون مع “الآخر”، لكن تضامنهم لم يمنع عن المهاجرين أنواع الظلم والامتهان.

شكل عظام وجهك، لون بشرتك، لَكْنَة في لغتك، لباسٌ يكشف دينك.. أي شيء يمكنه أن يجعلك عرضة للأذى، فالهدف: هو إشعارك بأنك غريب ومختلف وغير مرغوب في وجودك بينا. الهدف: هو أن يجعلوا وجودك بينهم مؤلمًا، وأن لا تُمنح أية فرصة لتطبيع العيش بسلام في الغرب.. الهدف: أن تُدفع دفعا إلى العودة من حيث أتيت، حتى لو كانت عجلة الحياة والاقتصاد في الغرب قائمة جزئيًا على عاتق الجهود المضنية التي تبذلها وأنت تقوم بواجبك على أكمل وجه لترضي من لا يرضى .

لا يختلف الإيكوادوريون عن الإسبان في لغة ولا دين، كل مافي الأمر، أن تلك الصبية، تحمل في وجهها بصمة اختلاف جعلتها عرضة للاعتداء.. كل مافي الأمر، أن المهاجرين واللاجئين في أوربا كانوا يعيشون أسوأ أنواع سوء المعاملة، لكن انفجار ثورة المنطقة العربية، وما أُوقِد بهامشها من حروب، أدت إلى تدفق اللاجئين بمئات الألوف على الغرب، ووصول الرئيس الأمريكي العنصري الجديد سدة حكم العالم، جعل المشكلة تطفو على السطح، ومعها ما يعانيه الغرب من مشكلة أخلاقية حادة، لقد وضعته هذه الأحداث المزلزلة أمام مرآة ضميره.. فظهر إلى العلن أوضح مثال تاريخي عن النفاق الحضاري وكذب الأمم على نفسها!.

غربة اللاجئين والمهاجرين في الغرب، كانت وما زالت، بصمة وجودهم الحقيقية فيه، ومع الوقت صارت عذاباتهم ومعاناتهم بحد ذاتها هوية، تحميهم أحيانا من الذوبان، وتعينهم أحيانا أخرى على الصمود والتحدي، فروا من الأهوال، ليجدوا أنفسهم في مواجهة أهوال جديدة.. من نوع جديد، غير أنها وللأسف ترتدي عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تجردهم منها أوروبا على عتباتها، ليكونوا مجرد “آخرين” .. يمكنهم أن يأكلوا مما نأكل، ويلبسوا مما نلبس، ويتنفسوا معنا نفس الهواء.. وينالوا بعض العناية الاجتماعية والطبية، لكن، وأبدًا.. أبدًا، لن نسمح لهم بأن يأكلوا أو يلبسوا أو يتنفسوا أو يُعتنى بهم اجتماعياً أو طبياً، بنفس الطريقة، ولا أن يعتبروا أنفسهم بشرا مثلنا!

 

———————————————————–

مقالات الرأي المنشورة في الصحيفة لا تعبّر عن رأي هيئة التحرير بالضرورة.

النساء اللاجئات وحقوقهن المعطّلة

الصحافية الألمانية يوليا كوربك: لدينا امرأة في منصب المستشارة، ولكن هذا لا يكفي