in

الرسالة الأخيرة من إزمير

المعتصم خلف.

الليل يا أمي أسكنهُ لكيلا يخون، وأحوم حولهُ كجارية مدفوعة الأجر لكيلا يبعد الإيقاع عني فيرجعني بقافية ضرورية التكرار نحو بلاد لا تصدق أنّ لي أهلًا وظلًا وبيتًا كثير الشبابيك.

منذ الأمس لم يهدأ البحر يا أمي ولم آكل، يقولون إن اليونان قريبة، وإن كل الفصول هنا ربيع، وإن البحر خائن بعيون الخائفين، وأنا أصدق كطفل صغير تسرد له جدته قصصًا بنهايات سعيدة، أصدّق كغريبٍ تخبرهُ القيامة عاداتها ليحترم الحياة بذوق فارسٍ تنحى جانبًا لكيلا يدوس ورد الطريق، وتنحيت يا أمي جانبًا لكي أحمي الحلم من الغبش الضروري للوصول.

والجميع الآن يغني، رأيت عربًا يهمسون بلحنٍ حفظتُ مطالعهُ “يما مويل الهوى يما مويليا ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا” رأيتُ أفارقة يزنون بتوت الأرض ويلاحقون الضباب بزغب الابتسامة، رأيت أناسًا كثيرين يا أمي ولم أنتبه حتى الآن من أنا، وأنا أحاور البحر بلغة المخاطب المسبوقة بالسؤال والرجاء “فلتهدأ قليلاً، ولتظهر النجاة مرئيًة كالسحاب على تلال لم نَرَ بدايتها، احملني يا بحر على خاصرتك متشبثًا ببداية التكوين. يا بحر لم أرَ أهلي قبل هذا اللقاء، فلتسمح لي بوداع أخير وخذني بعدها كما تشاء، خذني كما يأخذ الحجل حصتهُ من وديان لم يزُرها قبل الآن، خذني بحرية الصعود نحو جبال التجربة بأقدام عارية لا تكترث لشوك الطريق، أما الآن فلتظهر النجاة كحمالة المفاتيح واضحةً بصوت وأبواب، خذني بلا زفة ولا أهل وخذني هكذا بلا قافية أو لحن، خذني يا بحر واحدًا مني لئلا يراني أحد غيري أبحث فيك عني”.

الساعة الرابعة فجرًا يا أمي، وكل شيء هادئ إلا بقع ضوء حافية تقود داخلي مدًا وجزرًا لا ينذر بشؤم، بقعٌ ترمي ظلالاً لراعي البحر الذي بدأ بتجميعنا كقطيع نحو منحدر لزج، ابتسمي هنا يا أمي لقد بلغت العشرين وصرتُ قادرًا على السفر وحدي، وعلى ركوب موجة بلا دليل نحو جهة الطريق، ابتسمي هنا يا أمي لكيلا أبكي، كم مرةٍ ضعت على طريق مدرستي ووجدتكِ تبحثين عني بين أزقة أضيق من صوت مَنْ أرشَدكِ نحوي، كنتُ واقفًا على الضفة الأخرى لطريق عام، صرختِ باسمي لكيلا أعبر وحدي وابتسمتِ وأنت تتقدمين نحوي، فلتبتسمي الآن لأنجو وأعلو.

الساعة الرابعة والنصف.. شبان يضحكون، أطفال يتكدسون حول بعضهم في الوسط، إناث ينقحون الحنين بعيون تحوم حول دمع يرصد الأمل بأي شيء، وموسيقا مرئية على حواف أيدٍ تتحرك كأنها تعبر عن قصيدة لم يكملها شاعرها.

أول البحر يا أمي عرافة لا تصدق أبدًا، كلها احتمالات للظن وشكٌ بالمجهول، أول البحر ستائر لشباك يطل على جدار، في أول البحر أخرج من نفسي وأنظر نحوي من البعيد كأني ذاك الواقف على البر مودعًا آخر القطرات التي سالت على عشبٍ يابس.

وأنا الآن في منتصف البحر، لا شيء معي الآن يا أمي، سقطت حقيبتي والنظارة، سقط صوتي في النداء وسقطت أداوت الإشارة في خوف العابرين بين هاويتين لا يبلغ النظر فيهما إلى قرار، لا شيء معي الآن لا الأمام ولا الوراء وكل الجهات شرق، أحمل دلوًا صغيرًا لأعبئ ما فاض من حنين وماء خارج حصتي من القارب، فنادي علي يا أمي لعلي مازلت في البيت، أصرخ باسمي بين الغرف لعلي أولد قربك سالمًا كالشعر المصفى من الاستعارة ولعلي أنجو كاملاً دون نقص في الهواء، وأعرف ستضحكين لو قلتُ لكِ رددتُ كثيرًا من الشعر، وأني قلتُ كلامًا كثيرًا عن وصف الحياة، بحثت عن نفسي في الكلام ولم أجد سوى ظمأ الكلمات لموت يلمع في سراب البحر وانقلاب التشبيه على المشبه.

ثلاث ساعات في البحر، والموج يرتطم بأول القارب، يدنو من البعيد ويكبر حولنا كحقول في موسمها، وكفكرة تختبر صاحبها على قوة احتمالها يسير البحر فينا ويبحر حولنا بأجساد تحكُ بعضها ببعضها، ماذا أقول لكِ يا أمي وأنا أرى الموت يعلو ويهبط ويحوم كصياد لا يمهل الفريسة فرصة ثانية، ماذا أقول يا أمي سوى ما يقول النازلون عن درجات البيوت في وداع لعلهُ الآخير “افرشي الأرض التي كنتُ أنام قربها كأني عشبة نبتت في غير موعدها”.

قد توسع النشيد يا أمي وزاد الغد ابتعادًا عن الصدى لمن غرقوا، سقطوا مثلي في غواية الوصول نحو يابسة لا تظهر إلا لتغيب، ولا تحدق نحونا إلا لتسجل أسماءنا بخطٍ رديء، انقلب القارب يا أمي، والآن لا شيء سوى الماء والملح، أحارب يا أمي شكي بالموت بأيدٍ ترتطم بثقل التنقل، أدفع الماء عني وعنكِ وأفض البلل بالشهيق المبالغ لحد النداء، أتخيلكِ، ماذا تفعلين وأنا أغرق، ماذا تقولين وأنا أبحث عن الحياة وسط الملح، والخيال يا أمي عدو الغارقين وشهادة العيون على واقع لم يشك باحتمال غيابي.

سواد يا أمي، قاع البحر حبري حتى آخر قطرة، لا أدري متى آخر مرة رأيت السماء فيها، ولكنني مقتنع أن آخر من خاطبتهُ ورأيتهُ هو أنتِ.

Gib mir einen Flüchtling!

هل يعارض الألمان إعادة انتخاب ميركل؟