in

يا صديقي

فادي جومر

 

حتى هذا الخراب الذي قد نحمله على ملامحنا، كان من المقدّر له أن يكون جميلاً لو أنّ الموت لم يأكل حلاوة لقائنا الأول، ويتركه كقطعة من خبز “الناعم” الرمضاني، نسي صانعها أن يرشقها بالدبس، فصارت بلا أيّ طعم. كيف غاب عن بالي أنّني سوريّ لم تنجُ حتى ذكرياته وأحلامه من الموت؟ كان عليّ توقّع حضوره معكِ، فهذا بديهي!.

جلّ من لا يسهو! اغفري لي سهوي، فأنا أغفره لنفسي كل يوم.

وأنا أستعدّ لزيارتك، كنتُ مهووسًا بالتفاصيل: لون الشمع، نوع الشراب، الموسيقا، الطعام.. كنت أسعى إلى الكمال، الكمال المطلق، حتى أن خيالي المولع بأحلام اليقظة صار قاصرًا أمام طموحي. ولكنّي بقيت حائرًا أمام الغبار:

الغبار المتراكم في زوايا البيت المهملة، وما أكثرها، هو دليل انتظاري الطويل لكِ، لكِ وحدكِ، هل أخفي دليل براءتي بيدي؟ تركته على حاله، آملاً ألّا يزعجك.

بقي أن أحضِر قهوة طازجة، شاميّة مثلكِ، فأنا لا أشرب القهوة عادةً، ولا أحتفظ بها إلا لضيف طارئ، ضيف لا يجيء إلا كل شهور لزيارتي في منفاي النائي في القرية الألمانية التي صارت سجني ذا الطبيعة الساحرة. لذلك تفقد قهوتي نكهتها، ولا أبالي. أما معك فالأمر مختلفٌ، فالشاميّة تُطلِع الصبح من ركوة قهوتها، وأنا أشتعل شوقًا لأنهي ليلي الممتد منذ عام بصباحك.

شيء ما في داخلي يجعلني بلا انتماءٍ حدّ الغجر، وشيء ما في داخلك يجعلك شاميّةً حدّ حنان جدّتي لأمي، الشامية الأولى التي علمتني الشام، وهنالك شيءٌ مفقود في كلينا، يجعلني ألهثُ لأكون شاميًّا، وتبكين لتكوني بلا انتماء.

وصلتِ، أمضيتِ ليلتك، وحدكِ، ورحلتِ. هكذا كخبر عاجل عن مجزرة. سيكون من البائس حقًا أن أسهب في وصفِ بؤس الزيارة، جليدها، والموت الذي وسمَ ذكراها، وحده تركُ الغبارِ كان القرار الموفّق الذي اتخذتُه، فالأسود يصير أقلّ قتامةً حين يعلوه الغبار.

أكتشف بعد رحيلك أنّي مهووس باجترار الألم، ما زالت هداياكِ التي اشتريتها لك بعد رحيلك، كزيارتك، هنا. لي وليست لي، في خزانتي، تصفعني كل يوم، صورِك تملأ البيت، لكني لا أراها.

كان عليّ أن أمحوكِ كليًّا من ذاكرتي، أن أتجنّبكِ على الأقل، أن أقرر أنّ الموت الذي صار علامة لقائنا الفارقة قد أراحكِ من الغربةِ، وأراحني منكِ. لكنّي أخاف من ذلِّ إعلان الهزيمةِ، أتظاهر بالكبرياء، والتظاهر بالكبرياء هو الفعل الأكثر إذلالاً للروح. ولكنّي لا أبالي، علّمنا الشرق الذي ألقانا فيه أهلنا لنكبر كالصحراء أنّ البكاء عيبٌ، وأن الضعف عار، إن عرف الغرباء. يا لكِ من غريبةٍ!.

أخترع مزيدًا من التفاصيل لأتذكركِ، مثلاً: صرتُ لا أتصل بكِ أو أردّ على اتصالكِ إلا وأنا أقضم تفاحةً. وأراقب الدم على أطراف مكان القضمة، الدم الذي يذكرني أنّي أفقد أسناني ببطء، هو تمامًا ككل تحيّة تصلني منكِ، أو كلّ سؤال منك عنّي، يذكرني أنّي أفقدك بهدوء.

يخطر لي أن أكتب لك عشرات الرسائل، وكان كلّ ما يمنعني هو أنّي أعرف عنوانكِ. أيّة تفاهة تمسخ الرسائل المعنونة بأسماء المدن والشوارع وأرقام البيوت؟ ما معنى الرسالة إن لم تكن صرخةً في الريح أو ورقةً في قارورة في البحر؟

تكاد قصتنا تختنق وتخنقني معها، أبحثُ عن متنفّسٍ، أبوح لصديقة بعيدةٍ بسرّي فتصير جدةً تنصحني بالصبر وبالتمسك بالأمل، أخبرها ضاحكًا باكيًا عن عدد المرات التي تناديني بـ “يا صديقي” كلما اتصلتُ بكِ لتذكريني بأني أقلّ من صديق. وأختم بوحي بمزحة تقيني من النحيب:

أعتقدُ أنّي حتى لو قلتُ لها: “يلعن أبوكِ” سترد علي: “يلعن أبوك أنت.. يا صديقي!”.

عن الطعام، الهوية، الهجرة والاندماج

البيت الأبيض يحذر الحكومة الإيرانية رسميًّا بسبب تجربتها الصاروخية الأخيرة