in

هوية برأس ناقص

اللوحة للفنان شادي أبو سعدا

نيرمينة الرفاعي*

في جيبي هويتي الشخصيّة، التي تثبتُ أنني أنا ها هنا، أنا المواطنة القانونية التي بلغتْ سنَّ الرشد من سنين ولم تنتخبْ ولا لمرّة واحدة، لأنَّها وجدت الصناديق جميعها مغلقةً منذُ الولادة بالمفاتيح، فالهويّات في وطني لا تعني مفتاحًا بأيّ حالٍ من الأحوال، هي مجرّد بطاقة بلاستيكية مستطيلة يستخدمها أصحابُ المفاتيح ليفرزوني هنا أو هناك. عليها رقمٌ طويلٌ متسلسلٌ يدعونهُ بالرقم الوطنيّ، قالَ لي جدّي مرّة: “إنَّه رمز سرّي لا يستطيعُ فكَّ شيفرته إلّا أولئك الذين يملكون مفاتيح الصناديق”.

أمرُّ على الأرقام رقمًا رقمًا محاولةً أن أفهم لمَ تتكررُ التسعة في شيفرتي السرّية، صوتي يشبهُ صوتَ معلّمة اللغة العربية في الصف الثالث وهي تصدحُ بحماسٍ مبالغ به في الصباحات الباردة: “وطني لو شُغلتُ بالخُلْدِ عنهُ نازعتني إليهِ في الخُلْدِ نفسي”، لم نكن نفهم حينها -أنا وصديقاتي- ما هو الخُلْدُ الذي تغنّي له، ولم يرَ أحدٌ أصابعنا التي تساقطت من البرد على أرض الساحة المدرسية كقطعِ زجاجٍ حين صفقّنا، ولم يلحظ أحدٌ أننا دخلنا صفوفنا دون أصابع، والتصقنا برائحة خشب الدرج لثمانية حصص متتالية كسناجبٍ مرتعدة، وبكينا حينَ عجزنا عن الإمساك بالطبشور والممحاة، ثم عدنا إلى بيوتنا بدفاتر فارغة ونحنُّ نغنّي عن الخُلْد.

على البطاقة ثبّتوا صورةً لي وأنا أبتسمُ ابتسامةً عوجاء، يضحكُ حبيبي الجالسُ بجانبي كلّما أخرجتُها لشرطيّ السير الذي يسامحني على مخالفاتي المرورية الكثيرة، فمن ذا يخالفُ مواطنًا صالحًا ذو ابتسامة تنزاحُ نحو اليسار؟ لا أعلمُ متى بدأت ابتسامتي بالميلان مفضّلة جزءًا من فمي على جزء، تاركةً إيّاي بأنصاف قبلات، لستُ وحدي من أعاني من ابتسامتي، فنحن هنا في هذه البقعة الجغرافيّة نولدُ بأفواه كاملةِ الاتزان، ثم نفقدُ الاتجاهات في لحظة من اللحظات لسببٍ غير مفهوم، ونبدأ حينها بإطلاق الضحكات الزوجية وتجنّب الفردية في محاولةٍ بائسة لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، حبيبي يضحكُ من قلبه على صورتي مع أنني لم أقلْ لهُ إنَّهم قصّوا رأسي قليلاً من الأعلى كي يتناسبَ مع القياسات المطلوبة، ولم أقلْ لهُ إنني أمشي الآن برأسٍ ناقصٍ وذاكرةٍ ممتلئة بالشوارع التي رقصنا على أسفلتها حافيين.

على الوجه البلاستيكي الشاحب يتمددُ اسمي الطويل، تربطهُ إلى ظهر البطاقة خانةٌ تُدعى “مكان ورقم القيد”، ادعّى الموظف في الدائرة الحكومية أنَّ رقم القيد سيمنع اسمي من السقوط محاولاً طمأنتي، ولكنني تحسسَّتُ معصمي البارد وارتجفتُ وبدأتُ بالبكاء كطفلة، مدَّ لي يدهُ وهو يعطيني منديلاً وكوبَ ماءٍ باردٍ ولكنَّه سرعان ما ضاقَ ذرعًا ببكائي فصفعني وقيّد اسمي وهو يشتمُ كلَّ أجدادي!

هناكَ تاريخ انتهاءٍ أيضًا على البطاقة، لا أعلمُ ماذا أفعلُ به، أقفُ كهيكلٍ مرجانيّ مليء بالثقوب، أمدُّ يديَّ نحو السماء وأنا عاجزةٌ عن الحركة.. أخبئ بطاقتي بقيودها وأرقامها، أمدُّ يديَّ إلى أعلى ما استطعت، ثم أقبّلُ الراحلين ثلاثَ قبلات فردية، ولا يلحظُ أحد أنَّ ابتسامتي تنزاحُ نحو اليسار.

*كاتبة وروائية أردنية

تحدي بين كلينتون وترامب بشأن الموقف من المهاجرين بعد مذبحة أورلاندو

إفطار رمضاني يجمع الرئيس الألماني مع عدد كبير من المهاجرين في برلين