in

المكان و خلق الفرادة في مجموعة (أطفئوا الزيتون ليلاً)

اللوحة للفنان سعد يكن

حيدر هوري.

يشكل المكان البؤرة المركزية التي تمنح الإنسان المبدع مساحة واسعة للتنفس والتعبير عن الكوامن والرؤى والأفكار، لأن العلاقة بينهما علاقة أزلية وراسخة، فالمكان هو المؤثر الرئيس في تكوين شخصية الإنسان وفي التأثير على بيئته الاجتماعية والثقافية وهو المتحكم والمشارك في تكوين السلوك الإنساني. لهذا يشكل المكان لدى الشاعر أحد أهم مصادر الجمال فمنه يستمد تلك الطاقة الحالمة والمبدعة التي تساعده على خلق وكتابة نصوص طافحة بالجمال والعبقرية الرؤيوية، فالمكان يمثل الهاجس والمخيلة والهوية الثقافية التي تؤسس ملامح الفرادة والخصوصية لدى المبدعين عمومًا والشاعر خصوصًا.

“وأرى سرابي/ في الرمال حقيقةً/ من دسَّ وسط الرملِ أسرار المرايا..” ص54

من يقرأ هذا المقطع من المجموعة الشعرية (أطفئوا الزيتون ليلاً) الصادرة عن دائرة الشارقة للثقافة والإعلام عام 2016 للشاعر المصري (محمد اسماعيل سويلم) بعد حصوله على المركز الثالث في مسابقة الشارقة للإبداع العربي، سيدرك مدى تأثير المكان على الشعراء وسيعرف مباشرة إلى أية بيئة ينتمي صاحب هذه العبارة، فالسراب والرمال كفيلة لأن تقول بأنه ابن الصحراء.

يستمد الشاعر كل طاقاته الإبداعية في هذا الديوان من المكان الذي يقطنه، ففيه ذكرياته وهواجسه، لذا نراه يفتتح الديوان بقصيدة بعنوان (غناء المصير) التي تمثل امتدادًا لحلم الشاعر في عنق الليل، فيستحضر الذكريات وكـأنها ظلال الحاضر، ومن خلال القصيدة ندرك أن الشاعر يقيم في مكان بسيط من حيث الوصف ومعقد في بنيته الجمالية. بعيدًا عن مراكز المدن وصخبها.

“حين افترقنا/على حافة التلِّ/ و امتدَّ فينا/ الظلامُ الأخيرُ/ تعرّتْ/ على كتفِ الرّملِ أحلامنا/

و تعدّى الظما و الهجيرُ ..” ص7

المكان المحرض للكثير من مظاهر الجمالية في نصوص المبدعين، فهو قرين التجربة البشرية ورافدها ومترجمها، لهذا نلاحظ مدى تأثر معجم الشاعر بالجغرافية الطبيعية التي تحيط به، فالمجموعة الشعرية، زاخرة بالمفردات التي تعبر عن الصحراء كالرمل والسراب والخيمة والنخيل والريح والقبيلة والبدوي.. إلخ، كما أن عتبات عدد من النصوص كانت تحمل حصة من تلك الطبيعة مثل (من ذاكرة الرمل – بدوي – صوتي رئة للريح …)، وكل هذا يؤكد دور المكان البارز في تكوين الإنسان في جوانب كثيرة ومنها اللغة:

“تلون وجهي بلون الرمال/ وكفّاي دوّامةٌ../ ودمي يتخلّلهُ زيتونها/ وعلى كتفيَّ ينامُ لنخيلُ..” ص15

حتّى في رثاء معلمه نراه متأثرًا بالصحراء وتفاصيلها وأركانها لذا يخلق صورًا فنية مفرداتها المعجمية مأخوذة من المكان الذي كان مؤثِّرًا بالشاعر فيستحضر الخيمة والبلح. الخيمة دلالة السكن والطمأنينة والبلح  والثريد دلالة الطيبة والعطاء لدى المعلم:

“وقفت كالخيمةِ/ السماء مدى/ والفكرتان الثريد والبلحُ..”  ص207

للمكان أيضًا شعريته الخاصة في النص الشعري، وهذه الشعرية نستشفها من الحالة الدلالية التي تتضمنها الوقائع والأزمنة والأساطير والأحداث، لهذا نرى الشاعر في ديوانه يوظف المكان بشعريته من خلال اللغة والصورة محاولا ما استطاع خلق جماليات خاصة به، ويختصر بها رؤاه الإنسانية:

“في أقاصي البلاد ولدنا/ نبتنا على هامشٍ/ من بطونِ الجبالْ/ علمتنا السماءُ أبجديتها/

فكتبنا على الرمل بعض التلالْ..” ص12

يسعى الشاعر أثناء خلقه للصورة المكانية المدركة حسيًا إلى خلق صور ذهنية مجردة ومتخيلة محاولا جعلها صورًا ساطعة وعميقة الأثر في نفس المتلقي ونفسه من خلال تحريض المخيلة للوصول إلى تلك الحالة الجمالية:

“وأمسكُ بين يديّ السرابَ/ أعلمه أن يجرّبَ/ طعمَ الوضوحِ، مواجهةَ الآخرين ولو مرةً/

ويعلّمني أن أدسّ صفاتي/ وأربط – خوفًا- على بطنها حجرين..” ص16

وفي نص (سيناء) تتجلى كل معالم الجمال والخصوصية المكانية لدى الشاعر محمد الذي يرى سيناء الشيخ الحكيم سارد الحكايا والحكم:

“سيناءُ/ شيخٌ في تواضعهِ يجمّعُ حولهُ أحفادهُ/ يروي لهم ذكرى لياليه الطويلةْ..” ص 43

وبما أن الزمان والمكان متلازمان ولا يمكن الفصل بينهما لأنهما يمثلان الأرضية الخصبة للحقائق التي تنشأ فيها الأحداث والوقائع نجد أن المكان الذي يتحدث عنه الشاعر مرتبط بالزمان الذي يعيش فيه، فيحكي لنا عن الاضطرابات التي سادت سيناء في الآونة الأخيرة حيث نشر الموت ظلاله فيها:

“سيناءُ/ حيثُ الموتُ/ يلهو في الملاعب مع صغار الحيّ/ والأفراحُ في خجلٍ/ تخبّئُ نفسها/ ما بين أغان الخميلةْ..” ص 45

المكان يؤجج لدى الإنسان عددا من المشاعر وهذه المشاعر والعواطف لها تأثيراتها على المكان أيضًا فقد يكون للمكان دور في تفجير عواطف الحب والرضا لدى الشاعر فيبادلها بمشاعر الحب والانتماء وربما العكس أيضا، فيدفع بالشاعر إلى أن يبادل المكان بمشاعر الكراهية أو عدم الرضا أي أن العلاقة بين الشاعر والمكان علاقة انتماء أو تنافر، غير أننا سنجد أن للمكان أثره الإيجابي على الشاعر محمد اسماعيل الذي يبادل بيئته الحب والولاء ويتمسك حتى بأشواكها وشيحها:

“قلبي نقيٌّ/غريقٌ في بداوتهِ/ لا تمسحي عنه/ وشم النخلِ والشيحِ..” ص 50

وأيضًا يتجلى هذا الحب للبيئة ولملامح الحياة في الصحراء في قصيدة (صوتي رئة للريح):

“يقول لنا الجدُّ: لا تبعدوا يا صغار السماءِ/ اتبعوا النّجمَ إن ضلّلتكم طريقٌ وخان خطاكم رفيقٌ/ وعودوا إلى خيمةٍ في الدّماءِ/ لكم في الخيامِ حياةٌ/ يحاصرها الطوبُ والتكنولوجيا…” ص 24

 

أخيرًا.. أقول إن آليات استحضار المكان كثيرة لكن هناك فارقٌ كبير بين الاستحضار العادي والبسيط للمكان المعتمد على الوصف الحسي، وبين الاستحضار العميق الذي يعتمد على الرؤية الفنية الطافحة بالجماليات والمرتبطة بالأحاسيس الإنسانية وذلك بالاعتماد على اللغة المكثفة التي تمثل القاعدة السحرية المجسدة لكل أركان الجمال وللرؤية العبقرية ولقد كان الشاعر محمد إسماعيل موفقًا في ذلك في أغلب نصوصه، ولكن يؤخذ عليه أن معجمه اللغوي مازال ضعيفًا وبحاجة إلى التدعيم، وأنه أكثر من تكرار الصور الشعرية وبنفس الدلالات والغايات في أكثر من نص.

النحت

المرأة اللاجئة تحت مطرقة العمل