in

طبيب نفسي وأربعون حرامي

اللوحة للفنان شادي أبو سعدة

عبد القادر الجاسم*

كانت ثانوية بسام العمر سنة 1992، قد وصلت لمرحلة متقدّمة من القمع الممنهج، وكان إدارتها، تتباهى بما تمارسه من صرامةٍ، حققت سمعتها (الطيّبة) أمام المسؤولين في التربية، في حين كانت ثانويّات حلب الأخرى، كالمتنبي، والمأمون، والكواكبي، تمثّل نماذج متفرّدة في التسيّب والانفلات.

أذكر جيداً، كيف كان مدرب الفتوة الكهل يقف في تحية العلم الصباحية، مقطّب الجبين، مُوَبّخاً بما يليق، وما لا يليق، إلى أن يتقدّم أسبوعي المدرسة، فيقدّم الصف لسيادة الملازم، وقد كان يضع شارة الملازم على كتفه!! ومن ثمّ نردّد الشعار، والنشيد الوطني، أو نشيد البعث. وكم كانت صدمتي كبيرة إذ عرفت لاحقاً، أنّ ما كان يحدث أمامنا يوميّاً، ليس إلا محاكاةً فجّة، لما يجري في صباح أيّ قطعةٍ عسكريّة.

كانت القسوة المفرطة خبزنا اليومي، وكفاف واقعنا، وقد حالت فتوتنا، ونضارة عودنا، دون أن  ندرك ما يجري حولنا. لم نكن نعي سبب القسوة، التي ولّدت قسوة آبائنا، لتُضاف إليها قسوةٌ خرقاء، أرهقت حياتنا المدرسيّة.

كانت العقوبة الجماعية نمطاً سابغاً، وكان عادياً، أن يصطفّ طابورٌ من الطلاب على مقصلة العصا الغليظة، أو الكبل، الذي كان يهوي صافراً على راحاتهم الغضة، في انسجام عجيب مع صفير رياح كانون. كان البرد القارس مناسبةً لممارسة السادية المقيتة، والتشفّي بعذابات وأوجاع فتيةٍ، فُطروا على المرح والشغب، بينما كانوا يبحثون عن ذواتهم في أحرج مرحلة من أعمارهم.

كان المدير علماً نبيّاً في القسوة، وقد ارتأى ذات نبوءةٍ، أن يحرم الطلاب من حصة الرياضة، يتيمة الخطة الأسبوعيّة، لأن الطلاب بزعمه، كانوا يزعجون زملاءهم في الصفوف، أثناء الحصص الدراسيّة. ولكم ودّ ذات خطبةٍ غير عصماء، لو أنّ الأمر بيده، فيلغي حصة الفنيّة، وحصّة الموسيقا، لأنهما تعلّمان الطلاب على الاستهتار والتهتك.

أمّا الموجّهون، فكانوا سدنة ذلك الجحيم المصغّر، وقد نال منهم رفاقي أشد العقوبات المجحفة، التي كانت جاهزةً بسببٍ أو بدونه. فالتأخير، والغياب، والعلامة المتدنّية، وإساءة الأدب، والتدخين، واللعب بريئاً كان أم شيطانياً، والشكوى، أو التذمّر، والمخالفة بالهندام العسكري، ونسيان الكتاب، وغيرها، مدعّمةً بنظام “الفسافيس”، كلّها كانت أسباباً موجبةً للعقوبة المغلّظة، دون رادعٍ أو شفقةٍ. ولا مناص حينها، من الفصل واستدعاء وليّ الأمر، الذي كان حضوره مُناسَبَةً قذرة لكيل الاتّهامات، والبهتان بحقّ الطالب، والمطالبة بإخراجه من المدرسة، والنُصح بأنّ “المصلحة”، هي الحل الأنسب له.

في آخر ذلك العام تفاجأنا باختفاء العصا من المدرسة، ولقد فهمنا فيما بعد، أن أباً لأحد زملائنا، وكان صحفيّاً، هدّد المدير وكادره بفضحهم في الجرائد، إن لم ينتهوا. وكان أن أرسلت التربية وفداً للتفتيش والمساءلة، كان من شأنه أن يضع حدّاً لكل الانتهاكات التي مورست بحق الطلاب.

لقد كان هذا التهديد وبالاً على المدرسة، فلا كادرها تعامل مع الأمر بروحٍ جديدة، ولا كان قد زرع جيداً ليحصد، وها قد دخلنا مرحلة الصف الحادي عشر.

لقد وجدت نفسي حينها في زمرة حاقدين على المدرسة، وأصبح النظام القائم هدفاً لكل نشاطنا، إذ وجدنا في سلبيّة المدرسة حينها عجزاً وضعفاً؛ فما كان منّا إلا التمادي والشطط، حتّى وصل الأمر للهروب والتسرّب، فيما رأت الإدارة في ذلك خلاصاً لها وراحةً.

لم أجد ذات يومٍ في صفّنا الأربعيني، إلا خمسةَ طلابٍ، وكان اثنان بينهم من المجدّين، فيما كان الثلاثة ممن لا يجد حيلةً فيهرب. ولقد كان أحد المُجدَّين لا يكلّم الآخر إلا لمماً، ويخاصمه حسداً وغيرةً. ولقد استغربت منه سؤاله عنّي حينها: يا رجل ماذا تفعل هنا؟ اذهب والتحق بالرفاق في الحديقة! ولسوف أتبعكم بعد قليل. لقد بدا لي الأمر مثيراً، إذ أزاح عن كاهلي عناء تأنيب الضمير، بتشجيعه ووعده لي بأنّه سيتبعنا، بينما كان يربّت على كتفي: هيّا هيّا لا تتأخّر.

كان لهذا الطالب بانضباطه واجتهاده، اليد الطولى في التأليب على المدرسة ونظامها، ولكم ودّ لو يستطيع أن يغرّر بزميله، الذي ينافسه في الدراسة، لكنّ الآخر لم يكن ليترك له الفرصة ليحادثه، إذ كان يراجع الدروس في الفرصة، ويعود إلى البيت ركضاً، لينكبّ على دراسته، فقد كان سليل أسرةٍ مشهورة في المواظبة والاجتهاد.

لم نستطع بطيشنا، وما نكنّه من روح الانتقام للمدرسة وإدارتها، أن نفهم دوافع الطالب الذي كان يغرّر بنا، حتى اكتشفنا أنّ هدفه، كان التفرّد بحضور الدروس، والإنصات لها بكلّ جوارحه، بعيداً عن ضجيج الناقمين العابثين.

في ذلك الوقت لم يكن ثمّ دروسٌ خصوصيّة، وكانت المدرسة عماد التعليم المفترض، ولقد استطاع ذلك الطالب خلق ظروفٍ مُثلى لدرسٍ خاصّ، عزّ في ذلك الحين.

كم كان مبهراً أن يلتحق أكثرية الأربعين لاحقاً، بمختلف الكليات والمعاهد، بعد إعادة البكالوريا مرّتين أو ثلاثاً، بينما لم يفلح باجتياز اختبار القسوة في الثانويّة إلا القليل. لقد واجه هؤلاء قسوة الحياة، وقسوة المدرسة، وسرقوا مستقبلهم، واقتنصوه عنوةً.

لقد تغيّرت الظروف اليوم، ولم تعد المدرسة كما كانت من قبل، فيما تجذّر خروجها من العملية التربويّة والتعليميّة، رغم كلّ الإجراءات التي هدفت إصلاح نظام التعليم. لم يعد في المدرسة قسوةٌ أو نظام فتوّةٍ، ولم تعد العقوبة مسموحةً في المدارس، لكنّ المدرسة لم تعد مدرسةً في الواقع، ولم يعد بإمكان زميلنا، تهيئة الظروف لدرسٍ نموذجيّ مفصّل على قياسه، فهو الآن طبيب نفسيّ معروف في حلب.

*عبد القادر الجاسم. كاتب سوري مقيم في إسطنبول

اقرأ أيضاً:

“ذاكرة باللون الخاكي”.. فيلمٌ عن الخسارات والغضب

ذلك العقاب… هذه اللعنة

التدريب المهني للاجئين في ألمانيا (الجزء الأول)

فيديو لروبوتين من غوغل، يكشف التطور السريع في إمكانياتها