in

الضياع بعيدًا عن حلب

S-Bahn-Train-in-Berlin-Germany

صبيحة خليل 

اسطنبول، براغ، برلين، باريس وغيرها من كبريات المدن والعواصم، متاهات وسراديب تبتلع أرواح الغرباء واحدًا تلو الآخر، بلا شفقة و لا رحمة. هي مدن تحتفظ فقط لسكانها الأصليين بحق حرية السير والحركة كيفما شاؤوا. أما الغرباء فنصيبهم الضياع والتعب والحيرة أمام اختلاط الجهات وتشابه الأمكنة والأسماء.  

في اسطنبول، تلك المنحوتة التاريخية المترامية الأطراف، تجثم على صدرك -أنت الغريب- قارتان كاملتان، ببراريها وبحارها وملايين سكانها. مدينة تبدو من بعيد في وئام كبير، وتناسق رشيق، رغم تعدد القوميات والإثنيات والطوائف التي ترسم فسيفساءها الملون. تكتشف ذلك للوهلة الأولى، تخال أنها مدينة واحدة، لكن سرعان ما تكتشف أنها مدن كثيرة. ساقها التاريخ أمامه فتدثرت بعباءة واحدة. هي اسطنبولات كثيرة، إن جاز التعبير. مرصوفة بعناية الصدفة على مد النظر، وربما بمشيئة صيرورة المعارك والحروب تكورت على بعضها مثل بقجة بلل البحر حوافها. لكنه لم يستطع، بكل جبروته أن يفصل فيما بينها.عشرات الجسور التي تعترض خلجانها المتداخلة مع حواريها تحول دون الفصل بين قسميها. الأوربي والآسيوي. كما لو أنها خيطت بخيط متين. 

ماذا لو أنك هذا الغريب. حطت بك الحرب في اسطنبول، وماذا لو أنك أخطأت برقم الباص. في غفلة نسيت أن ترفع نظارتك من على أرنبة أنفك لتأخذ مكانها الصحيح أمام عينيك. سنتيمتر واحد فقط ربما كانت تغنيك عن رحلة طويلة ومضنية من أجل تصحيح المسار الذي أفلت منك. هذا ما حدث معي ذات يوم عندما كنت أقف على عتبة الإنهاك والتعب أنتظر الباص رقم 146 ت. بعد طول انتظار لاحت الحافلة الصفراء الضخمة من بعيد. كنت واثقة أنني أنتظرفي المكان الصحيح، وارتسم أمامي الرقم 146ت على جبهة الحافلة القادمة. انحشرت بين الجموع نحو وجهتي، بعد دقائق اكتشفت أن عيناي المتأرقتين قد خانتاني. و أن التراجع صار صعبًا بعدما سلكت الحافلة الطريق الدولية السريعة. راحت تطوي المسافات دون توقف لمدة ساعة ونصف الساعة، غير آبهة بدوائر القلق المرتسمة على وجهي الملاصق لبلور النافذة.

بمرار التهم روحي طول المسافة، وبصمت رحت أتذكر أخطائي الصغيرة في ركوب الحافلات في حلب قبل ربع قرن. حينما كنت أشق طريقي في بداية حياتي المهنية كمعلمة في إحدى القرى النائية التابعة لمحافظة حلب. كنت أترفع عن السؤال خشية المتطفلين، ما أن تسألهم حتى يتجمع حولك كل سائقي الباصات ومعاونيهم. لذا كنت أفضل التجوال والمغامرة لأوفر مشاكسات ومضايقات لا تتعدى نظرات الإعجاب وبعض كلمات الاستلطاف. ولكن ثمة فارق كبير بين الضياعين. ضياع تمتلك فيه لسانًا مطرزًا بلغة تستطيع اللعب بمفرداتها واستنباط ما لا يخطر على بال، لأنها بالأصل لغتك الأم. تستمد منها نسغ المعاني وجسارة الحوار، لكنك لا تستخدمه طواعية منك. أما الضياع الثاني فيختارك هو، لا إرادة لك به. يتحول فيه لسانك إلى قطعة خشب جافة أو يتمطى كمادة لزجة تعلق بحواف أسنانك. تقف مذهولاً في المفترقات ولا تثير من حولك سوى الريبة، وإن استطعت السؤال، يتحول الجواب إلى عبء إضافي وإلى مزيد من دوائر القلق التي تحاصرك. 

بعد ساعات عدة استطعت العودة من الاسطنبولات المتناثرة، ورحت أرطب خاطر نفسي ببطولات العودة التي سأسردها فيما بعد أمام الأهل والأصدقاء. بالطبع، لن أذكر لهم كيف مرت الحافلة من شارع تورغوت أوزال أربع مرات، وكيف لمحت الساعة البيضاء في ساحة أكسراي بثلاث تواقيت مختلفة. كنت أدور مثل صياح أفلت من خيطه القطني. رمقني السائق الملتحي بنظرات الازدراء والشك عبر مرآته الكبيرة. كابدت شهوة البكاء والنوم على قارعة الطريق نتيجة التعب والإجهاد. لن أذكر كل تلك التفاصيل سأسند لنفسي دور البطولة حتى تمضي الحكاية نحو جهة أخرى. 

براغ 

في براغ عقدت العزم على ألا أضيع. رحت أدقق مطولاً في مخطط رحلتي. أسير نحو عشر دقائق إلى المترو. أنزل بعد خمس محطات.. أركب الحافلة من هناك حيث هدف مشواري من تلك المغامرة. كان كل شيء يسير على ما يرام، واستطعت القيام بالرحلة و إنجاز ما أريد. لكن المفاجأة حلت عندما انشغلت بالرد على هاتفي ونسيت النزول في المحطة المطلوبة أثناء طريق العودة. حينما نزلت في المحطة التالية اختلفت علي الخيارات. لابد من العودة الى المحطة التي فاتتني. فضلت الترامواي على المترو الذي لا أحبه.. فالوثوب على وجه الأرض وتحت ضوء الشمس أفضل من الانغماس في ظلمات الأنفاق.. ولكن حدث المكروه مرة أخرى. 

اعتقدت أن الترامواي لن يستغرق سوى دقائق. مضت ساعة وأنا أدور في شوارع براغ إلى أن توقف في منطقة مهجورة. وجدني السائق واجمة في مقعدي ومذهولة، كلمني بالتشيكية. عرفت أنها المحطة الأخيرة. قلت له بالإنكليزية، أنوي الوصول إلى مركز المدينة. أشار نحو منطقة بعيدة. لم أرَ شيئًا، خمنت أنه دلني إلى محطة ما قريبة. مشيت بينما كان الظلام ينسج رهبته الممزوجة برائحة غريبة. للأماكن رائحة أيضًا. هكذا تعلمت في حلب. رائحة سوق المدينة المسقوف حيث تفوح روائح الصابون والبخور الممزوجة برائحة الفلفل الحار الذي يحرق خياشيم أنفك مع الزغب المتطاير من ندف الصوف وهي تتلظى تحت عصا الحلاج  وتتدفق مع الضوء في فتحات الأسقف المقوسة. كنت أستطيع تمييز سوق باب الجنين وما يحيط بها وأنا مغمضة العينين، من روائح الخضار والسمك والجبنة. وأعرف شارع العزيزية من روائح العطور والجلد المصنوع. أما هناك في المدن الغريبة تختلط عليك الروائح وتتماهى مع الأضواء الشاحبة.   

صعدت القطار وبحثت عن وجه مألوف. وجه أرتاح إلى قسماته. أوجه له سؤالاً فيما لوكنت على السكة الصحيحة. سألت أحدهم. سرعان ما أبدى أسفه وقال، “عليك تغييرالقطار بعد خمسة محطات.”  

في المحطة الخامسة قررت أن أستقل سيارة أجرة وأرتاح من التيه. مرت دقائق دون أن ألمح أية سيارة، صعدت قطارًا جديدًا للتخلص من وهم الانتظار. لمحت في قعر القطار الكئيب شابين برفقة فتاة تبدو عليهم هيئة النعمة، كما يقال. كانوا يتناوبون على زجاجة ويسكي. سألتهم عن وجهتي. أطلقوا ضحكة مجنونة لكنها لم تفسد فرحتي بوجود من يتكلم لغة أجيدها. بادر أحدهم بالسؤال ومد نحوي زجاجة الويسكي. هل تشربين!؟ أجبت مبتسمة، لا شكرًا.. فقال وهو يضحك كان يجب أن تشربي حتى لا تضلي الطريق.علت ضحكاتهم من جديد. تذكرت كومضة برق ليالي حلب أيام العطل والأعياد. تذكرت هوس زوجي بالتسكع في شوارع المدينة بعد منتصف الليل. كنا لا نعود إلا مع انبلاج شمس الصباح. لم يكن لدينا متسع من الوقت في النهار. كنا نتوه ما بين العمل وأمور البيت والأولاد. لم نكن نملك سوى سرقة تلك السويعات من وقت لآخر.  

أخيرًا عرفت وجهتي من الظرفاء الثلاثة. ورحت أشق طريقي عبر الأضواء الشحيحة الصديقة للبيئة والعدوة لوحدتي.. وصلت لمكان إقامتي بعد ساعات طويلة من الضياع في مدينة باردة يعربد فيها الخواء والضجر.  

برلين 

لم يخطر ببالي أن أحصي رحلات التيه يومًا ما، أو أن أكتبها لولا أنها عادت وتكررت في برلين نتيجة سياحة اللجوء القسرية. هذه المرة كنت واثقة من رصيف المحطة. لذا أطلقت العنان للذكريات. عبرت الوديان المؤدية الى قريتي النائمة على كتف جبال عفرين. وصلت بيت أهلي. راقبت أمي وهي تضرم النار في الحطب. تحمل قدرها النحاسي الكبير. القدر الذي كانت تتباهى بامتلاكه أمام كل نساء الضيعة، وتتذكر آكوب الأرمني الذي أتقن صناعته.

في حمأة الذكريات، توقف قطار ما صعدت إليه بهدوء. بعد قليل خالجني الضياع ثانية. أحيانا القطار يمر بمحطات غريبة. لا بأس من الاسترخاء والهرولة خلف حالة الشرود اللذيذ الذي كان يدغدغ غربتي. جاشت عواطفي. أحيانا تسيل دموعي رغمًا عني، وأنا سارحة. حاولت قراءة إحدى فصول رواية  ”لمن تقرع الأجراس“ لأرنست همنجواي. إن تقرأ مآسي غيرك تهون مصيبتك، هكذا علمتنا جداتنا. 

لم أصل وجهتي. لا بد من السؤال. وكان الجواب صدمة جديدة. مرة أخرى أنا في عالم الضياع. نزلت في محطة غريبة. أضواء زرقاء كالحة تنبعث من غرفة مخصصة للانتظار. دخلت الغرفة وأفسدت خلوة عاشقين في آخر هزيع تلك الليلة. من غير اللائق التطفل على عاشقين بسؤال. تذكرت بمرارة عنادي وترفعي عن السؤال، تلك العادة التي لازمتني طوال حياتي في حلب. 

أفكر الآن، في المرات القادمة  لن أضيع. سأستجدي تلك السكك المعدنية العجوزة والمتقاطعة كمتاهات، الصدئة، لتأخذني بعيدًا، إلى حيث أحلم. إلى وطني. 

مواضيع ذات صلة

الإرهاب في هويته الأنثوية

المرأة اللاجئة تحت مطرقة العمل

حبل السرة في ألمانيا

المهن والاقتصاد والمرأة

 

ميركل: السياسة الإنعزالية للرئيس ترامب لن تجعل أميركا عظيمة

رحلة اللجوء من سوريا إلى أوروبا في لعبة فيديو