in

شيطنات الساسة الخبثاء

العمل للفنانة رؤيا عيسى

ممدوح عزام*

كان دأب الشيطان، منذ أن وجد، أن يتسلّل إلى الأماكن المحظورة والمعتمة. من هناك يستطيع أن يفتن البشر ويلهيهم ويدفعهم لارتكاب الفجور. وسبق لغوته، أو لأسطورة فاوست، أن وضعت الشيطان “مفيستوفيليس” في هذا القالب المدمّر الخالي من أي تعاطف. ومعروف أنه قايض الدكتور “فاوست” على روحه وشخصيته بلا رحمة، مقابل مكاسب دنيوية عابرة.

غير أن الفنانين كان لهم شأن آخر مع الشيطان، فاعتبر “فوكنر” أنه يدفع الفنان إلى العمل والخلق، ووصف “بارغاس يوسا” أعمال المرأة التي يحبها بطله، ويلحق بها من بلد إلى آخر، بـ”شيطنات الطفلة الخبيثة”. وكانت العرب تعتقد أن لكل شاعر شيطان يقطن في وادي عبقر، وهي منطقة جغرافية متخيلة، يقدم منها الشيطان خدماته الطيبة للشعراء حين تغادرهم المخيلة أو تربكهم هموم الحياة.

ويبدو أن هذا المخلوق قد اغتنى بكثير من الرموز على مرّ العصور، وأنه تمكن في العصر الحاضر من التسلل إلى لغة السياسة، والراجح أن يكون قد قدّم فائدة كبيرة لمستخدميه على صعيد الرمز، وعلى صعيد تمييع الرمز، أو سد المنافذ، أو تزوير الحقائق، أو المساعدة على الهرب من قول الأشياء كما يجب أن تقال. ولا يتورع ساسة العالم عن استخدامه كمرآة، أو كذريعة لتضخيم العدو. وكل جهة تستعير من الجهة الأخرى هذا السلاح الغريب. وبسبب، أو بفضل، الاضطرابات الدلالية في الألفاظ السياسية والاجتماعية، وتشابه، أو تماثل، الاستخدامات بين الأطراف المتصارعة، فقد تم اختيار الشيطان ليكون رمزاً غامضاً يستطيع أي شخص أو جهة أو حزب أو دولة تحميله ما شاء من العيوب.

صار الشيطان، مثلاً، واحداً من اللاعبين الكبار في المسألة السورية. وبخلاف المشاركين في هذه المسألة، فإن الشيطان ظل يحتفظ بغموضٍ غريب دفع الكثيرين كي يظنوا أنه أنشأ تحالفات متنقلة بين هذه الدول التي اقتحمت الساحة السورية، أو بين النظام والمعارضة السياسية، أو بينه وبين الفصائل المسلحة. بل إن كثيراً من المحللين الاستراتيجيين باتوا يعتقدون أنه تقمص روح بعض تلك الدول، وراح يجتاح الأرض السورية براً وبحراً وجواً.
فأمريكا هي الشيطان، في نظر أولئك الذين يعادونها، ولم تعد الامبريالية ذات الأهداف الاستعمارية، وروسيا هي الشيطان الطامح لغزو العالم، وليست الرأسمالية الصاعدة المتوحشة التي لم تجد غير الفتات على المائدة. وإيران هي شيطان يتلبس بالميليشيا، وليست الدولة الطامحة إلى استعادة الأمجاد الفارسية الغابرة، مستخدمة عمامة الفقهاء. وتركيا شيطان جديد يتسلل من خلف اللاعبين الكبار، وليست الدولة التي تريد كسر مشاريع الشعوب التي ترنو إلى الحرية.

والطريف أن كثيراً من الكتاب الماركسيين باتوا يستخدمون الشيطان في تحليلاتهم السياسية، وأن بعضاً منهم يضعه في مصاف الاستراتيجيين الكبار. ولكن ما يخفيه هو الأكثر خطورة في هذا الباب، ويمكن هنا أن نزعم أنها “شيطنة” فكرية تتطلب كثيراً من المهارة والبراغماتية في سلوك هذا الدرب. و”الشيطنة” هي أيديولوجيا من لا يريد أن يقول الحقيقة عن نفسه أو عن الآخر، إنها شكل التحالفات المعاصرة، فاستخدام الشيطان في وصف العدو الأمريكي يتيح لهذا الصنف من الماركسيين اللقاء بالحلفاء الذين لا يؤمنون بماركس، مثل القيادتين الروسية والإيرانية.

إذ يصف الساسة الإيرانيون أمريكا بالشيطان الأكبر. وهي تسمية تشي أن لديها شياطين صغاراً يعملون في مساعدتها. ولقاء الإيرانيين المتدينين ببعض العلمانيين العرب في هذه التسميات، أو في هذا الحقل الرمزي، يعني أن لديهم ما هو مشترك أكثر من مجرد استخدام الرمز نفسه! أو أن أحد الفريقين يقدم تنازلاً فكرياً أمام الآخر. ويمكن هنا أن نحزر من الذي يتنازل.

ولقاء الساسة السعوديين مع العلمانيين (ومن بينهم ماركسيون) والديموقراطيين العرب، في هذه التسمية يعني أن الشيطان بات قادراً على خلق تحالفات كانت تبدو مستحيلة.. وفي الجانب الآخر من الخصوم يستخدم الساسة الأمريكان رمز الشيطان في معظم خطاباتهم السياسية، ولا شك أن عبارة “محور الشر” مستمدة من أعمال الشيطان وتحركاته المشبوهة، ورغبته في تخريب العالم الحر الذي أنجب لنا أحراراً من طراز الحمل الوديع “ترامب” مثلاً. وبإمكان السياسة الأمريكية التي تستعير هذا الرمز أن تزجّ من تشاء من الدول والأمم في هذا المحور، أو تخرجهم منها، بحسب التحالفات المعدة.

فمن معنا هو الصالح ومن ليس معنا هو الشرير تابع الشيطان. ولا تقصر هوليوود في كشف هوية الأشرار دائماً في أفلام الجاسوسية أو الأكشن، ويصور الأشرار في هيئات شيطانية (على اعتبار أن لدى المشرفين صوراً حية عن هيئة الشيطان) ويعلن أبطال الأفلام صراحة أنهم الطيبون الذين سينتصرون على الأشرار، وهم ينتصرون دائماً. ويلتقون في الحقل الرمزي نفسه مع كثير من العلمانيين. ماذا نتوقع أن يقول الشيطان عن هذه كله؟ يخيل لي أنه يضحك في سره، ولن يتمالك نفسه من القول حين يسمع ويرى هذه اللخبطة المقصودة في سلوك السياسة: أيها الشياطين الخبثاء!.

ممدوح عزام. كاتب وروائي من سوريا

 

اقرأ أيضاً

خولة: مؤنثٌ عربيّ بمعنى الظّبية التي لا تَقوى على المشي

عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها

ليس أكثرَ وحدةً قط – الجزء الأول

“ذاكرة باللون الخاكي”.. فيلمٌ عن الخسارات والغضب

ذلك العقاب… هذه اللعنة