in

“من هم، وكم عدد اللاجئين الذين ينبغي لنا استقبالهم؟”

حسام الدين درويش(*)

هذا هو السؤال الذي طرحته “جمعية الفلسفة التحليلية”، في قسم الفلسفة في جامعة كولونيا، على المهتمين بالفلسفة (من طلاب وأساتذة) في ألمانيا. وكان المطلوب هو كتابة بحثٍ لا يتجاوز عدد كلماته 4000 كلمة، يتم فيه توضيح الواجبات الأخلاقية تجاه اللاجئين وحدود هذه الواجبات. وكان الإقبال على المشاركة كبيرًا نسبيًّا، حيث تلقت الجمعية أكثر من مئة بحثٍ. وخضعت جميعها للتحكيم، من قبل لجنة تحكيم دولية “سرية” مؤلفة من تسعة أساتذة مختصين. وخلصت اللجنة إلى منح المركز الأول إلى السيد الدكتور ماتياس هوش من جامعة مونيستر(وجائزة مالية قدرها 3000 يورو) عن بحثه المعنون ﯧ “الواجب العام للمساعدة، عدالة ملكية الأرض، التعويض (أو إصلاح الأذى)، ثلاث معايير لتوزيعٍ عادلٍ للاجئين، ومتى يكون تطبيقهم مناسبًا“. ونال السيد مارسيل تفِلِه من جامعة هومبدولت في برلين المركز الثاني (وجائزة مالية قدرها 2000 يورو) عن بحثه المعنون ﯧ “عن حقوق الإنسان وواجبات المساعدة“. وذهب المركز الثالث إلى السيد الدكتور فابيان فِندْت من جامعة بيلفِلد (مع جائزة مالية قدرها 1000 يورو)، عن بحثه المعنون ﯧ “العدالة ليست كل شيءٍ: عن الهجرة والسلم الاجتماعي“. وقد تم نشر البحوث الثلاث ضمن كتابٍ، معنون بسؤال المسابقة، تضمَّن أيضًا سبع دراساتٍ أخرى شاركت في المسابقة.

في مساء يوم الأربعاء 11.05.2016، جرى حفل توزيع الجوائز، في المدرج الثاني من المبنى الرئيس لجامعة كولونيا. وقد تضمَّن الحفل ندوةً حواريةً عامةً أدارها الأستاذ الدكتور توماس غروندمان (رئيس جمعية الفلسفة التحليلية)، وشارك فيها، إلى جانب الباحثين الفائزين، مختصون بالفلسفة الأخلاقية والسياسية وجمهورٌ من المتابعين. وقد شاركت شخصيًّا في هذه الندوة، بدعوةٍ كريمةٍ من القائمين عليها، وأود، فيما يلي، أن أعرض الأفكار الرئيسة التي طرحتها خلال مشاركتي:

نظرًا إلى أنني دعيت إلى المشاركة، لكوني لاجئًا له علاقةٌ ما بالفلسفة، أود التحدث من منظورٍ يمكن تسميته ﯧ “منظور لاجئٍ” والذي آمل أن يكون، في الوقت نفسه، منظورًا فلسفيًّا.

يمكن لمعظم البشر أن يتفقوا، في خصوص النقاش الحالي، على أمرين أساسيين: الأول أنه، ومن حيث المبدأ، يوجد واجباتٌ أخلاقيةٌ تجاه اللاجئين؛ والثاني هو أن الأخلاق لا يمكن أن تكون مطلقًا بلا ثمن أو بدون إمكانية التعرض للخطر. وعلى هذا الأساس، يكون السؤال الأكثر أهميةً وإشكاليةً هنا هو: ما نوع أو مستوى الخطر، الذي نقبل بالتعرض له، في سبيل تنفيذ واجباتنا الأخلاقية؟ وكما رأينا في الدراسات الفائزة، لا يوجد إجابةٌ وحيدةٌ عن هذا السؤال، لأسبابٍ عديدةٍ، من أهمها أن المسألة تتعلق بالتفضيلات والأولويات الأخلاقية، وهو أمرٌ إشكاليٌّ يصعب الحسم فيه. ونجد، في هذا الصدد، أن بعض الناس لا يمكن أن يقبلوا القيام بواجباتهم الأخلاقية تجاه الآخرين (اللاجئين)، إلا إذا كانت الحاجة كبيرةً، والخطر، الذي يمكن التعرض له، أو الثمن، الذي ينبغي لهم دفعه، ضئيلًا. وفي المقابل، يبدي أناسٌ آخرون استعدادًا أكبر للمخاطرة، لأنهم يرون أن حاجة الآخرين (اللاجئين) الكبيرة والطارئة للمساعدة تبرر أو تسوِّغ القيام بمخاطرةٍ كبيرةٍ. وبين هذين القطبين، تتدرج العديد من البدائل والخيارات الأخرى. وفي كل الأحوال، من الصعب الإنكار أن معظم اللاجئين الذين أتوا إلى أوروبا، في الفترة الماضية، هم في حاجةٍ ماسةٍ للمساعدة. لذا، السؤال الأساسي هنا يكمن فيما إذا كان ينبغي الاستمرار في “سياسة الترحيب باللاجئين”، بسبب حاجتهم الماسة للمساعدة، ومحدودية الأخطار المترتبة على القيام بهذه المساعدة، كما يرى السيدان هوش وتفِلِه، أم أنه ينبغي عدم الاستمرار في هذه السياسة وتخفيض عدد اللاجئين المقبولين سنويًّا، لأن استمرار هذه السياسة يعرِّض السلم الاجتماعي في ألمانيا لمخاطر جسيمةٍ، كما يرى السيد فِندْت؟

قبل المضي في اتجاه الإجابة عن السؤال السابق، من الضروري العودة إلى سؤال المسابقة وإشكاليتها، إذ يبدو أن هذا السؤال يفترض أن اللاجئين هم مشكلةٌ أو حتى المشكلة. من المؤكد أنه من الصعب، حتى بالنسبة إلى اللاجئين أنفسهم، الإنكار أن اللاجئين يمثلون بالفعل مشكلةً حقيقيةً، لدرجةً أنه تم بحقٍّ تسمية هذه المشكلة ﯧـ “الأزمة”: “أزمة اللاجئين”؛ لكنني أود، مع ذلك، التشديد على نقطتين أساسيتين: اللاجئون ليسوا “المشكلة”، وليسوا فقط مشكلةً. فمن ناحيةٍ أولى، اللاجئون ليسوا المشكلة، لأن المشكلة الأساسية أو الأكبر، من وجهة نظرهم على الأقل، لا تتمثل في قدومهم إلى أوروبا لطلب اللجوء، وإنما تكمن تحديدًا في الأوضاع الصعبة التي كانوا يعيشون فيها والتي أرغمتهم على ترك منازلهم ووطنهم. ومن ناحيةٍ أخرى، اللاجئون ليسوا مشكلةً فقط، لأنهم يمكن أن يؤثِّروا إيجابًا في الدول التي يلجؤون إليها، من حيث إمكانية إسهامهم الإيجابي في اقتصاد تلك الدول وفي إغناء حياتها الاجتماعية والثقافية.

قد يعترض البعض على التشديد على ضرورة ذكر النتائج الإيجابية، الفعلية أو الممكنة، لاستضافة اللاجئين، بالقول إنه ليس ضروريًّا في سياق النقاش الحالي، الحديث عما إذا كان بوسع اللاجئين الإسهام إيجابًا في الدول التي تستقبلهم أو لا؛ لأن الحديث لا يدور هنا عن الجانب البراغماتي أو العملي من “أزمة اللاجئين” وإنما عن الجانب الأخلاقي. وأنا أقرُّ جزئيًّا بمعقولية هذا الاعتراض المحتمل، لكنني أؤكد، في المقابل، عدم إمكانية الفصل الكامل بين هذين الجانبين، في هذا السياق على الأقل؛ لأن سؤال المسابقة لا يتناول مسألة الواجبات الأخلاقية تجاه اللاجئين فحسب، وإنما يتناول أيضًا حدود هذه الواجبات. وهذه الواجبات يمكن أن تكون مقيَّدةً أو محدودةً، إذا كانت النتائج السلبية الواقعية أو المحتملة لاستضافة اللاجئين تمثِّل تهديدًا “كبيرًا” ما للدول التي تستضيفهم، كأن يشكِّل اللاجئون، على سبيل المثال، خطرًا على ديمقراطية تلك الدول أو اقتصادها أو أمنها أو سلمها الاجتماعي. فالحديث عن الجانب الأخلاقي من أزمة اللاجئين يستحضر جانبًا واحدًا (سلبيًّا) من الجانب البراغماتي أو العملي، ومن هنا ضرورة ومشروعية استحضار الجانب الآخر (الإيجابي).

يمكن للاقتصار على التركيز، تركيزًا أساسيًّا أو حصريًّا، على النتائج السلبية لاستقبال اللاجئين أو قبولهم، أن يحدَّ من واجباتنا الأخلاقية تجاه اللاجئين، لدرجةٍ قد يتم الانتقال فيها من “أخلاق الواجب” إلى “أخلاق الخوف“. وفي هذا النوع الأخير من الأخلاق، لا تتمثل الأولوية في تحقيق العدالة، من خلال “إنقاذ” اللاجئين أو مساعدتهم أو مساندتهم، وإنما تكمن تلك الأولوية تحديدًا في محاولة حماية الدول، التي يسعى النازحون إلى اللجوء فيها، من خطر هؤلاء اللاجئين ومن النتائج السلبية، الفعلية أو الممكنة، المترتبة على محاولتهم طلب اللجوء في تلك الدولة. ففي “أخلاق الخوف”، ليس مهمًّا ما إذا كان ثمة واجبات أخلاقية تجاه الآخرين (اللاجئين) أم لا؛ إذ ينبغي، في كل الأحوال، إهمال هذه الواجبات وعدم تنفيذها.

أود أخيرًا التشديد على أنه لا يمكن لا ﻟـ “أخلاق الواجب”، ولا ﻟـ “أخلاق الخوف، إقصاء إمكانية وجود نوعٍ آخر من الأخلاق، يمكن تسميته ﯧـ “أخلاق التعاطف والحب“. وفي هذا النوع الأخير من الأخلاق، نحاول التعبير فعليًّا أو عمليًّا عن محبتنا للآخر (اللاجئ) وتعاطفنا معه، حتى إذا كنا نعتقد أنه ليس ثمة واجبات أخلاقية تجاهه، وبغض النظر عن خوفنا أو على الرغم منه. ويمكن ﻟـ “أخلاق الواجب” أن تتأسس على “أخلاق التعاطف والحب”، لكن يمكن أيضًا لكلٍّ من هذين النوعين من الأخلاق أن يكون منفصلًا، انفصالًا تامًّا، عن الآخر. فمن جهةٍ أولى، نحن لا نقوم بواجباتنا الأخلاقية بسرورٍ وطيب خاطرٍ دائمًا؛ ومن جهةٍ ثانيةٍ، يمكن للكثير من أفعالنا الأخلاقية أن تحصل، بدون اعتقادنا أو شعورنا بوجود واجبٍ أخلاقيٍّ يلزمنا القيام بهذه الأفعال. ويمكن ﻟـ “أخلاق الواجب”، وحتى ﻟـ “أخلاق التعاطف والحب”، أن تكون “ملوثةً” دائمًا ﯧـ “أخلاق الخوف”. وبهذا المعنى نقول، مع دريدا: “تتضمن الضيافة دائمًا إمكانية التحول إلى عدائية”. وعندما تكون تصرفاتنا أو أفعالنا محكومةً بالخوف، لأسبابٍ مسوغةٍ أو غير مسوغةٍ، تتحول ضيافتنا الأولية إلى عدائيةٍ تجاه ضيوفنا الفعليين أو المحتملين. وهذا التحول تحديدًا هو ما يخشى معظم اللاجئين حصوله في البلاد التي تستضيفهم.

(*) باحثٌ سوريٌّ زائرٌ في “قسم الاستشراق” في قسم الفلسفة في جامعة كولونيا.

ندوة مفتوحة لأبواب عن أوضاع اللاجئين مع مركز إيرهار برون للتعاون الثقافي

بطاقة ممغنطة عوضًا عن المساعدات المالية، واللاجئون والمساعدون الاجتماعيون ساخطون!