in

عن سطوة الأساطير في مخيال البشرية: أسطورة أوديب مثالاً

 

محمد عبد الوهاب الحسيني*

 

يرى بعض الباحثين، أن الثورة العلمية الحديثة كادت في إحدى مراحلها أن تقضي على الأسطورة، خصوصاً بعد أن حولتها إلى مجرد حكاية مسلية، لكن القرن التاسع عشر جلب معه ثورة فنية وجمالية، أعادت إلى الأسطورة مكانتها الرفيعة كشكل من أشكال التعبير الفني والأدبي. ومن جهته يرى فرويد أن الأسطورة هي أصل الفن والدين والتاريخ!

والحقيقة أن الأسطورة منذ القدم، كانت موظفة ببراعة في الأدب، كما هو الحال في اليونان القديمة، فقد جرى تناول أسطورة أوديب في المسرحيات اليونانية منذ ألفي وخمسمائة سنة قبل الميلاد، حيث نجد مأساة ملك طيبة المدعو أوديب في مسرحية “سبعة ضد طيبة” لكاتبها “إيسخيلوس” ثم بعده تناول مواطنه “سوفوكليس” أسطورة أوديب في مسرحياته الثلاث: “أوديب ملكاً” و”أوديب في كولون” ومسرحيته “أنتيغون”، لقد كان “سوفوكليس” الأكثر براعة أدبية في تناول هذه الحكاية الأسطورية ومأساة بطلها أوديب، الذي نسجت له الآلهة قدراً لا فكاك منه، فهو الطفل الذي كان يتوجب موته إلا أنه حسب نبوءة العرافات فأن هذا الطفل الوليد يعيش ويقتل أباه، دون أن يدري أن القتيل المسمى “لايوس” إنما هو والده. كما كان قدره الذي كتبته الآلهة دلفي أن يتزوج أمه أيضاً دون أن يدري حقيقة ذلك، وحينما علم بالحقيقة فقأ عينيه عقاباً لإثمه الكبير. وهكذا تاه في البراري وعمّر طويلاً في مأساته بعد أن أنزل بنفسه القصاص المؤلم، وهو حقيقة المذنب الذي لاذنب له، ولكن الأمر كان مدوّناً مسبقاً في سيرة قدره منذ أن كان وليداً.

إن تناول هذه الأسطورة في الآداب قديماً وحديثاً جارٍ على قدم وساق، فقد تطرق إليها “هوميروس” في ملاحمه المعروفة، ونعني بها الإلياذة والأوديسة. ومن جهته تناولت هذا الموضوع الأوديبي مسرحيات شكسبير مثل مسرحيته “هاملت” طبعاً بمعالجة فنية خاصة بكاتبها، ناهيك عن أعلام أدبية كثيرة تناولت هذه المأساة مثل “فولتير” و”أندريه جيد” و”جان كوكتو” في مسرحيته “الآلة الجهنمية” ونجد في العالم العربي كاتباً مرموقاً مثل “توفيق الحكيم” قد تناول بطريقته مأساة الملك أوديب في مسرحيته “الملك أوديب” وقام بإسقاطات سياسية عليها. 

إن هذه الأسطورة ستبقى حية وموضوعاً للأدب أبد الدهر لأنها تعبّر عن النفس الإنسانية، وتقوم على العقدة الأوديبية التي تحدّث عنها “سيغموند فرويد” في نظرية التحليل النفسي التي أنشأها في أكثر من كتابٍ له.

وفي سبعينيات القرن الماضي، صدر كتاب للباحث “إيمانويل فلايكوفسكي” تحت عنوان “أوديب وأخناتون” حيث يذكر أن مأساة أوديب ليست مجرد حكاية خيالية بل هي قصة واقعية جرت حوادثها ليس في مدينة طيبة اليونانية التي بناها “قدموس” الأوغاريتي بعدما سافر من جبيل إلى اليونان، إنما الواقعة جرت في مصر القديمة حسب هذا الباحث، ويرى أنها قصة الملك المصري القديم “أخناتون”، حيث يذكر أن كلمة “أوديب” تعني باليونانية: القدم المتورمة، وتصوّر رسوم “تل العمارنة” في مصر، وهي المدينة التي بناها أخناتون وأطلق عليها اسم “أخيتاتون”، أخناتون نفسه بفخذين منتفخين، الأمر الذي دفع باحثاً آخر وهو “جيمس برستيد” إلى القول أن أخناتون كان يعاني تشوهاً طبيعياً في أطرافه، وكان أخناتون قد أطلق على نفسه لقب “ذلك الذي عاش طويلاً” وهذا هو معنى اسمه. وبالمقارنة نجد في أسطورة أوديب اليونانية، أن الطفل الذي كان مقدّراً له أن يموت طفلاً قد عاش بالفعل طويلاً !!.

من جهة أخرى لم يظهر أخناتون قط في الرسوم الكثيرة لوالده، لأنه عاش على الأرجح في بلاد الميتانيين في سوريا، لكن بعد موت والده، تقلّدت أمه “تاي” العرش، فظهر ابنها فجأة على مسرح الأحداث وتسلم مقاليد السلطة وأنشأ ديانة “آتون” بدلاً عن ديانة أبيه أمنحوتب الثالث “آمون”، هذا وقد تزوج أخناتون أمه، علماً أن الزواج من الأم لم يكن محظوراً في مصر القديمة، بينما كان ذلك جريمة في اليونان آنذاك!

ثم تآمر الكهنة الذين رفضوا ديانة أخناتون الجديدة، وقاموا ضده بثورة من داخل القصر، وهذه الواقعة تماثل حكاية أوديب في مسرحية سوفوكليس اليونانية !!..

أغلب الظن أن الحكايات قديماً كانت تتنقل شفاهية من خلال القوافل التجارية، وعلى مر السنوات تضيف المخيلة البشرية إضافات من هنا وهناك، والأساطير كانت ثقافة القدماء وأساس تشريعاتهم الدينية، وتأتي للتعبير عن الواقع المعاش، وبالتالي ليس من المستبعد أن تكون مأساة أوديب حكاية مصرية تم تداولها في الأدب المسرحي القديم والحديث.

*محمد عبد الوهاب الحسيني، كاتب وصحفي سوري مقيم في ألمانيا

خاص أبواب

 

اقرأ/ي أيضاً للكاتب:

جرّ الواقع إلى الإبداع، رواية “سبايا سنجار” لسليم بركات

رواية علي بدر “الكذابون يحصلون على كل شيء”: رواية اللاجئين المهمّشين في أوروبا

تعرّي وصور وفيديو من على قمة هرم خوفو، من فعل ذلك وكيف؟

بالصور: برلين تتألق بأضواء عيد الميلاد