in ,

في “طعم الإسمنت”: بيروت.. بحرٌ إسمنتي، واستراحةٌ بين حربين، وحظر تجول دائم

فيلم سوري آخر، سحر جديد من الألم يضيف وثيقةً أخرى عن معاناة لا يجب أن يغفرها المستقبل لجيلنا، ولما يدعى حضارة إنسانية في القرن الواحد والعشرين.

حضرت فيلم “طعم الإسمنت” الذي يعرض ضمن مهرجان برلين السينمائي الدولي، بنيّة أن ألتقي بمخرجه زياد كلثوم، خرجت من قاعة السينما مثقلةً بألمٍ أبعدني عن الاحتراف، وفي اعترافٍ هنا أقول أنني لم أستطع أن أقوم بمهمتي، اعتذرت من المخرج الذي كان ينتظرني وربما ألغى مواعيد أخرى لنلتقي، وقلت فقط أنني لا أستطيع. ليس فقط بسبب ما تسبب به فيلمه من وجع، ولكن أيضاً بسبب الحرفية العالية في إنجازه، كنت أشاهد عملاً سينمائياً متكاملاً أصفه بالجميل بينما يسبب لي هو كثيراً من الألم. وبعيداً عن جنسيتي ومهنيتي تمكن زياد كلثوم من إصابة إنسانيتي بجرعةٍ زائدةٍ من ألمٍ وذكريات اختلطت مع مجازر الأيام الماضية في سوريا.

والآن في متابعتي لاعترافي سأشرح سبب هذا العجز أو سأحاول.. هناك مهنة غير موجودة غالباً في أشد الدول عنصرية اسمها “عامل سوري”، تطلق على أي سوري يعمل في لبنان “الشقيق”، بغض النظر عن التخصص، وبالطبع لا نتجاهل مهنةً أخرى شهيرة أيضاً في لبنان هي “سيريلنكية”.

طعم الإسمنت حكاية آلاف العمال السوريين

يحكي الفيلم حكاية جيلين من العمال السوريين، من خلال قصص مجموعة من عمال البناء العاملين في ناطحة سحابٍ قيد الإنشاء مطلةٍ على البحر، لا تشبه حياتهم شيئاً أكثر من حياة سجناء الأشغال الشاقة، يدورون مع النهار ليصعدوا إلى العمل ثم يعودون إلى حفرتهم في قبو المبنى ذاته مع غياب الشمس، في ظل حظر التجول المفروض عليهم بتهمة كونهم سوريين.

يحكي الفيلم قصص أطفالٍ كبروا بعيداً عن آبائهم الذين أمضوا عمرهم أيضاً يبنون بلداً آخر كانت حربٌ أخرى قد دمرتها، وها هم الأبناء يتابعون البناء لكن تحت وابل حرب وطنهم هذه المرة وحرب العنصرية الموجهة إليهم.

تتحول الحدقات كل مساءٍ إلى شاشات تعكس البراميل المتساقطة ربما على بيوت هؤلاء العمال هناك في وطنهم، وترى أحدهم يقرب صور الضحايا، يكبر الشاشة قدر استطاعته وهو يحدق علّه يميز في القتيل قريباً أو جاراً.

تتداخل الصور لكن أجمل ما في الفيلم يأتي مع الصوت، حين تتداخل أصوات آلات البناء واحدةً بعد الأخرى وتزداد طرقات المطارق، مع صوت الكومبريسة، مع سقوط البراميل، ليأتي في لحظةٍ أخرى انسياب الإسمنت كالموج الخفيف على شبكات التسليح. للإسمنت صوت أيضاً يشبه البحر، والغرقُ في كليهما واحد.

قلاب الإسمنت يدور بك في نهاية الفيلم ويدور.. لترى بيروت في دوامةٍ حلزونيةٍ مفرغة تبتلع الطريق في جوفها دون جدوى فهو يعبر من دمارٍ إلى دمار، حربٌ غادرت بيروت دون أن تغادر قلبها وعيونَ سكانها، لتستوطن فقط في البلد المجاور، وتحول سكانه إلى عبيد.

في اليوم التالي التقيت أخيراً مع المخرج زياد كلثوم، فسألته على الفور:

  • كيف كانت ردود الأفعال عند عرض الفيلم في لبنان؟

تم عرض الفيلم عرضاً خاصاً وحيداً وكان هناك نوعان من المشاهدين؛ نوعٌ يريد رؤية “سينما” وآخر جاء بأفكاره المسبقة عن اللبناني والسوري. فالفيلم يضع بعض اللبنانيين في منطقةٍ أقرب ما تكون إلى العنصرية، ولكن لحسن الحظ كان معظم الفريق الذي يعمل معي لبنانياً وتحديداً شريكي في كتابة الفيلم طلال خوري الذي كان يدافع عن الفيلم أمام منتقديه أو المتحفظين عليه.

المهم في ردود الأفعال أن كثيراً ممن شاهدوا الفيلم قالوا لي: “أصبحنا ننظر لأي مبنى قيد الإنشاء بنظرة مختلفة تماماً عما كنا نراه سابقاً” وهذا بالنسبة لي شيئ إيجابي جداً.

  • حين وضعت السيناريو المبدئي للفيلم، هل تخيلت أنه سينتهي إلى ما انتهى إليه الآن؟

لا أبداً فالسيناريو يبدأ على الورق بفكرة لينتهي بتطورات لم تكن بالحسبان، فمثلاً بعد سنة من التحضير وعندما شاهدت موقع التصوير وشاهدت الحفرة التي يعيش فيها العمال تغيرت تفاصيل السرد البصري بأكمله، ومن جهةٍ أخرى كان العمال خائفون من الحديث أمام الكاميرا سواء عن النظام الذي دمر بيوتهم في بلدهم الأم، أوعن ظروف العمل الحالية مخافة طردهم من قبل رب العمل، وأيضاً عن المدينة التي تعاقبهم سلفاً بمنعهم من التجوال فيها بعد السابعة مساءً.

وجدت نفسي أمام مجتمع أخرس تماماً لا يحق له التعبير عن وجعه وألمه، وأيقنت بعدم جدوى اللقاءات التقليدية، وأن الصمت سيكون أبلغ وأكثر قيمة سينمائياً.

وبصمت، تابعت حياة العمال منذ اللحظة الأولى لاستيقاظهم إلى لحظة نومهم، 24 ساعة في نفس المكان، ما بين الطوابق العليا نهاراً والقبو ليلاً، لديهم أربعة أفعال يومية فقط: الاستيقاظ، العمل، الأكل ومن ثم النوم أثناء متابعة فيديوهات ما يحصل في بلادهم. من هنا اردت ان أقص حكايا نزوحهم وتناقضات أقدارهم، كيف أتوا من تحت أنقاض بيوتهم محاطين بالإسمنت إلي قبو مبنى يحيطهم بالإسمنت أيضاً.

  • برأيك ما الذي أجّج هذه الحالة اللبنانية تجاه السوريين، أم أنها تبعات الحرب السابقة؟

المجتمع اللبناني ليس واحداً هو عدة مجتمعات.. من شارع لشارع يتغير الدين، الزي، العلم، اللهجة، مازال المجتمع يتبع زعيمه الخاص من أيام الحرب الأهلية، مع انتشار الفساد والطائفية. أتمنى ألا تصل سوريا لهذه المرحلة، ولهذا كانت فكرتي في الفيلم هل سنعمر البشر والحجر معاً أم الحجر فقط كما في لبنان؟

بيروت كما أراها هي آلة خلط الإسمنت (الجبالة) لأنه ومنذ نهاية الحرب الأهلية وإلى الآن مازالت آلة خلط الإسمنت تعمل يومياً، ولكي أستطيع التعبير وتوصيف هذه المدينة كما أراها نفذت لقطة بيروت من وجهة نظر جبالة الإسمنت اللقطة التي أعتقد أنها لم تنفذ قبلاً في السينما، حيث تدور بيروت في المشهد 360 درجة مع دورات الجبالة وتعبر بالمُشاهد في شوارعها وأنفاقها في دورة أبدية ما بين العتم والنور.

  • تم مؤخراً إنتاج الكثيرمن الافلام السورية من قبل جهات معارضة للنظام أو موالية له (إذا صح التوصيف هنا). برأيك هل التفاوت الشديد في أهميتها وجودتها عائد لأسباب فنية أم سياسية؟

هناك أشخاص “غير سينمائيين” يحاولون خوض التجربة السينمائية، ولهذا من الطبيعي وجود ضعف بمعالجة الموضوع. معظم أفلام النظام أفلام فكشن وبروباغاندا بعيدة عن الحقيقة ومشوهة لها، كفيلم جود سعيد عن حمص. وفي الطرف الآخر ظهرت الكثير من التجارب غير الناضجة ولكنها وجدت طريقها للسوق الأوروبية لأن الشأن السوري موضة رائجة للأسف. فمن السهل تجميع صور أشلاء ودماء تستدر العطف، ولكن هذه ليست سينما. وفي المقابل هناك مخرجون سوريون صنعوا أفلاماً جميلة جداً كطلال ديركي والفوز طنجور على سبيل المثال لا الحصر، وأعتقد أنهم نجحوا في ذلك لأنهم من خلفيات سينمائية أكاديمية.

وأؤكد هنا أنا سينمائي ولست صحفي، ولا أقدم بروباغاندا لأي طرف سياسي. ولهذا حاولت إيجاد لغة جديدة تكسر نمط الفيلم التسجيلي المعتمد على اللقاء أمام الكاميرا لأصنع فيلماً بلغة سينمائية حقيقية.

  • لو عدنا قليلاً إلى واقع السينما في سوريا، برأيك لماذا تعرضت السينما لكل هذا القمع، بينما سُمح للدراما التلفزيونية السورية بملامسة مواضيع حساسة نوعاً ما؟

لإن النظام يعلم ماهي السينما، ويعلم أن الفيلم ينتشر عالمياً وأن هناك مخرجين يستطيعون فضحه، بينما تبقى الدراما محلية، ولا أوافقكِ الرأي في أن الدراما كانت تعالج مشاكل مهمة أو حساسة.. فأقصى ما كان يعالج هو الزواج المختلط مثلاً أو المخدرات والدعارة. وأعتقد أن هذه القضايا تشبه الأفيون للجمهور الذي لايريده النظام أن يعرف عشرات القضايا الممنوعة الطرح. الدراما تطورت على صعيد الحكاية والسناريو والفانتازيا فقط.. ثم بدأت تستهلك نفسها وتنحدر كما في مسلسل باب الحارة مثلاً.

  • برأيك ما هو العامل الأهم في نجاح العمل السينمائي؟

السينما هي فريق؛ لا يوجد مخرج عظيم وفقط .. كل شخص في فريق العمل مهم جداً كمدير التصوير والصوت وغيرهم، ولا أعني هنا أنه يجب أن يكون هؤلاء الأشخاص مشهورين أو ذوي سيرة ذاتية خارقة، وإنما المهم في أي فيلم هو روح العمل والانسجام. للأسف التجارب التي تتم في سوريا فردية ويتعامل المخرجون فيها مع الأشخاص الآخرين كمساعدين ومنفذين فقط دون التركيز على أهمية الانسجام أو التفاعل المتبادل بينهم وهذا برأي خطأ كبير.

  • سؤالي الأخير، هل ننتظر منك مشروعاً سينمائياً في المستقبل قريب؟

نعم أحضر حالياً لفيلم روائي تدور أحداثه بين برلين وقرية صغيرة في بولندا، ويفترض أن يتم التصوير في الربيع القادم وهو من إنتاج ألماني بولندي وربما بشراكات أخرى، وبالطبع يتناول قصة وذاكرة إنسانٍ سوري.

 

المخرج زياد كلثوم: من مواليد حمص 1981، درس الإخراج السينمائي في روسيا، وعمل لفترة في المؤسسة العامة للسينما كمخرج مساعد مع مخرجين كبار مثل محمد ملص وحاتم علي، قدم عدة سناريوهات للمؤسسة إلا أنها رفضت.

من أعماله الفيلم التسجيلي الوثائقي “أي دل / أيها القلب” الذي تم منع عرضه في سوريا، وفيلمه التسجيلي “الرقيب الخالد” الذي فاز بعدد هام من الجوائز، منها “جائزة أفضل فلم تسجيلي طويل” بمهرجان “بي.بي.سي”، وجائزة في مهرجان لوكارنو السينمائي في سويسرا.

كان زياد كلثوم مجنداً في الجيش السوري حين اندلعت الثورة ومن بعدها الحرب، وفي عام 2012، أدار ظهره مغادراً جيش النظام، ليتخفى لأشهر قبل أن يتمكن من الهروب إلى لبنان، ومن بعدها نجح في الوصول إلى ألمانيا.

عند إعلان فوز “طعم الإسمنت” بجائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان رؤى الواقع ”Vision du reel” في سويسرا، وصفته لجنة التحكيم بأنه: “يرتقي لأن يكون تحفة فنية ولغة سينمائية عالية قوية، والتناغم بين الصوت والصورة هو سيمفونية كاملة”.

طعم الإسمنت

طاقم العمل:

إخراج وسيناريو وحوار: زياد كلثوم

تصوير: طلال خوري

تصميم الصوت: Ansgar Frerich

 إنتاج: بدايات و BASIS BERLIN Filmproduktion GmbH

Tobias SiebertAnsgar FrerichEva Kemme

الجوائز:

Adelaide Film Festival 2017: Foxtel Movies International Award, Best Documentary

Camden International Film Festival 2017: Harrell Award, Best Documentary Feature

Nyon Visions du Réel 2017: Grand Prix, International Feature Film Competition

Best Muhr non-Fiction Feature Award

Open city documentary festival: Emerging International Filmmaker Award

كما نال الفيلم ترشيحات أخرى عديدة

حوار سعاد عباس.

 

اقرأ أيضاً:

“ذاكرة باللون الخاكي”.. فيلمٌ عن الخسارات والغضب

آخر الرجال في حلب.. أول فيلم سوري يترشح للأوسكار

صاحب خان الحرير والثريا، الروائي السوري نهاد سيريس، عن التجربة والذاكرة ما بين حلب وألمانيا

“دويتشه بنك” يتوصل لتسوية مالية بعد فضيحة التلاعب بقيمة الدولار

“سنعلّم الزمن كيف يمشي”