in

إلى سما.. والسينما بعيون امرأة

مها حسن. روائية سورية مقيمة في فرنسا

بدعوة من منظمة العفو الدولية، توجهتُ إلى مدينة كاريه الفرنسية، لحضور فيلم وعد الخطيب، ومناقشة الجمهور بعد العرض.

العودة إلى حلب

قلت ما أحسست به وأنا أشاهد الفيلم: وأنا أتفرج على بداية التظاهرات في حلب، في سنة 2012، كنت أتساءل عن مصير هؤلاء الأشخاص، الذين لا أعرف عنهم اليوم أي شيء، وبالتأكيد لا أعرفهم معرفة شخصية، وإن كنت أنقّب بين الوجوه عن أحد معارفي من الأقارب أو جيراني في حلب حيث وُلدت وأمضيت صباي.

كان هنالك الكثير من الأصدقاء والمعارف، من سكان القسم الغربي من حلب (التابع للنظام) يذهبون إلى المناطق الشرقية للتظاهر هناك، والمساعدة في الأعمال الإغاثية. أين ذهب هؤلاء المتظاهرون السلميون الذين يبدون سعداء ومتحمسين بفرح لإسقاط النظام؟ 

ربما نصفهم قد مات، أو على الأٌقل ربعهم. من لم يمت منهم تحت القصف، أو بطلقة قنّاص، أو في المعتقل تحت التعذيب، مات في طريقه للهروب من البلد، بل ومنهم مات في المنفى. أما الجزء الآخر، من لم يموتوا فمنهم من تبعثروا في المنافي، في بلاد الجوار، أو في أوروبا، والباقون ما زالوا يعيشون هناك، في مدن أخرى داخل سورية، يرضخون للخوف والمهانة، والجوع.

حاولت التحدث عن الجوع الذي يهدد السوريين اليوم، ووجدتني أطرح سؤالاً، لايزال يشغلني حتى الآن: عمّن يجب أن نتحدث أولاُ، عن الذين ماتوا؟ أم عمن ما زالوا أحياء؟وهل نحن، الأحياء، الناجون من الموت، نعتبر فعلاً أحياء”؟

أعادني الفيلم إلى حلب. كنت أشعر أن الشاشة دخلت فيّ لتسحبني إليها، فوجدتني أشمّ رائحة الدم، رائحة الدخان، ورائحة الثلج.. 

لم تعد للكلمات ذات الاستخدامات التي اعتدنا عليها، قلت للجمهور: هل أقول لكم، أنه لم يكن لدي الحظ لأتواجد في حلب أثناء هذه التظاهرات؟ أو عليّ القول بأنه من حسن الحظ، أنني غادرت سوريا قبلها؟ هل الحظّ أن يكون أحدنا في أرض الموت، شاهداً على مايجري، وهذا ما فعلته وعد الخطيب بجسارة وإيمان، امتلكه أغلب السوريين الذين ثاروا ضد النظام؟ أم أن الحظ يكمن في النجاة؟

نعم، لا أعرف كيف أستخدم كلماتي اليوم! حتى كلمة النجاة، صارت منقوصة، ويعرف معنى هذا النقصان أغلب من نجوا بأجسادهم، بينما أرواحهم عالقة هناك.

رفض المغادرة 

من أهم اللحظات التي مسّني فيها فيلم “إلى سما”: مشاهد وداع حلب. بكت وعد وهي تترك البيت الذي تعلقت به، وبكت جارتها عفراء، واجتمعت صاحباتها حولها، لتؤكدن لها “رح نرجع”. 

كانت هذه اللحظات من أقسى المواقف التي حرّكت آلامي الشخصية، وفهمت مجدداً، وتقبلت عودة أمي من تركيا إلى حلب.

أعود إلى اضطراب استخدام الكلمات في غير أماكنها المعتادة، لأقول بأن أمي كانت تحلم بالموت في حلب. يرتبط الحلم عادة بالحياة، نحن نحلم بتحقيق أشياء نرغب بأن تحصل لنا أو لمن نحب، أثناء الحياة، أما أن ترتبط رغباتنا بالموت، فهذه تراجيديا لا يعرفها غير البشر الذين أيقنوا أن الحياة ستؤخذ منهم في أية لحظة، وأنهم في كل لحظة عُرضة للموت.

هذا ما فعلته وعد الخطيب، وهي تثبّت تلك الكاميرا في غرفتها، تسجّل تفاصيلها الصغيرة مع صغيرتها سما وزوجها حمزة، فهي لا تعرف من سيموت، ومتى، لهذا كانت تتكئ على هذه الكاميرا لتترك حياتها فيها، كشاهد على ما عاشه هؤلاء البشر.

هل رأيتم تلك الدموع؟ هل رأيتم كيف بكى حمزة ذو المزاج المرح والروح العالية، وهو يدرك أنه مغادرٌ لحلب؟ لهذا عليكم أن تعرفوا، عند لقاء أي سوري هنا، بأنه لم يغادر بلده للمجيء إلى أوروبا والاستمتاع بالحياة، نحن مجبرون على المغادرة، بل لأقل أغلبنا لم يكن يرغب بترك بلاده، وأحلامه، وذاكرته، للعيش هنا، والبدء من الصفر، مع جميع أشكال الاضطرابات النفسية وصعوبات التأقلم التي نحياها، لا بسبب رفضنا للتأقلم، بل لأسباب كثيرة، منها إحساسنا بعدم رغبة أغلب الأنظمة في الغرب بوجودنا في بلادها، وكوننا تركنا أجزاءًا كثيرة منّا هناك، في مسقط رأسنا).

هكذا كنت أردّ على أسئلة الجمهور، الذي كان يرغب بفهم المزيد عن حياة السوريين، سواء داخل البلد، أو خارجه.

السينما بعيون وعد

أميل إلى الاعتقاد بأن حساسية المرأة الكامنة خلف الكاميرا، فرضت روحاً محببة على الفيلم وعلى المشاهدين معاً، وخلقت تضامناً وإيماناً بالقضية التي تناضل من أجلها وعد: الحرية.

ربما يكون فيلم وعد أحد أندر الأفلام الوثائقية السورية في الآونة الأخيرة، الذي لمست فيه حضور النساء حيث دارت أغلب الأفلام الأخرى، في عالم الرجال وخاصة المقاتلين. 

أن تتحدث وعد، كامرأة، وكأم، وتعيش هذا الصراع، بين مهمتها كأم لحماية طفلتها، وبين واجبها كمواطنة اختارت الوقوف مع شعبها في قضيته العادلة، جعل الآخر يصغي بقوة إلى معاناة هذه المرأة، التي التقطت، بحساسيتها العالية، دموع الأطفال، ودموع الرجال.

حين بكى وسيم، وهو يعاتب أصدقاءه الذين تركوا حلب، أكد أنه سيبقى في حلب مهما حصل، ثم ارتمى في حضن أمه عاجزاً عن إيجاد حلول لما سيحلّ به إذا غادرت العائلة وتشبث بالبقاء، تعاطف الجمهور مع هذا الطفل مطولاً. وحين أحرجت عفراء زوجها ليغني لها أغنية عبد الحليم حافظ، فاضطر للغناء، لينضم إليه باقي الأصحاب ويعلو صوتهم فوق صوت الحرب، فهذا أيضاً من التفاصيل الحساسة والرقيقة، التي قدّمتها وعد بروحها الشفّافة، وكذلك اللحظة التي علمت فيها بأنها حامل، وتفاصيل كثيرة أخرى، تجعلني أعتقد أن كون صاحبة الفيلم امرأة، ساهم كثيراً في نجاحه ومسّه لمشاعر الجمهور العربي والغربي معاً. 

فيلم وعد يعتبر وثيقة على ارتكاب النظام لجرائم حرب، في قصف المشافي، وقد تساءل الجمهور في الصالة عن إمكانية اعتباره مادة لمحاكمة النظام، منضماً إلى الكثير من الوثائق التي تثبت قيام النظام بجرائم ضد الإنسانية.

اقرأ/ي أيضاً:

فيلم “إلى سما”.. كيف سمح العالم بحدوث كل هذا؟

الفيلم الوثائقي “إلى سما” للمخرجة السورية وعد الخطيب يفوز بجائزة “بافتا” 2020

تقرأون في العدد 50 من أبواب: ملف خاص عن “مفهوم النجاة والهروب لدى لاجئين سوريين في ألمانيا” ومواد أخرى متنوعة

في اليوم العالمي لمناهضة ختان الإناث.. كيف يمكن أن يؤدي الختان إلى الوفاة؟