in

في عيد الشكر.. ثورة تصحيح على النيويورك تايمز

حنان جاد.  تقول كتب القراءة لطلاب الصفوف الثانوية في أمريكا، أن المهاجرين الإنكليز ـ وتسمية مهاجرين هنا تحمل معناها الديني، إذ هرب هؤلاء من وجه الكنيسة الإنكليزية، بحثاً عن حرية العقيدة.

تقول الكتب: أن هؤلاء المهاجرين عانوا كثيراً، حتى وصل من بقي منهم على قيد الحياة منهكاً، إلى الأرض الجديدة، وكانت الأرض رائعة وفارغة، وقال المهاجرون: يا لها من أرض جميلة. وتقول الحكاية أن المهاجرين زرعوا الأرض، بمساعدة رجل من السكان الأصليين يسمى سوكونتو، علمهم أكثر أساليب زراعة الذرة نجاحاً، وأفضل مناطق الصيد، وأنهم في يوم الحصاد، دعوا جيرانهم من السكان الأصليين، وتناولوا جميعاً الطعام، فكان عيد الشكر

صحيفة النيويورك تايمز قررت هذا العام، أن تتعامل مع بعض أخطاء وابتسارات الكتاب المدرسي، مستعينة بمؤرخين، أحدهم جيمس لوين، وهو مؤلف كتابٍ، عن تزييف التاريخ في المدارس الأمريكية.

تقول نيويورك تايمز بحسب مصادرها، أن المهاجرين لم يكونوا مهاجرين بالمعنى الديني للكلمة، لأنهم عندما غادروا انكلترا، هرباً من الاضطهاد، وصلوا إلى هولندا، وهناك كان بإمكانهم ممارسة عقيدتهم بحرية، لكنهم توجهوا إلى أمريكا من أجل المال. المهاجرون أنفسهم، وقد تركوا الكثير من الوثائق والتاريخ المكتوب، لم يصفوا أنفسهم بهذا الوصف الديني النضالي، الذي أُطلق عليهم بعد حوالي قرنين من رحلتهم، كما أنهم قاموا بتأسيس حكم ثيوقراطي (ديني)، وهو أمر على النقيض تماماً، من مفهوم حرية العقيدة الذي ظهر كهدف نبيل، وحلم يكلل الرحلة.

أما سوكونتو، البطل الذي ساعد المهاجرين، وعلمهم الزراعة والصيد، وكان وسيطاً تجارياً، ومترجماً، ومبعوثاً ديبلوماسياً بينهم وبين السكان الأصليين، والذي تنتهي حكايته في الكتب المدرسية، من دون أن نعرف كيف تعلم هو بالأصل اللغة الإنكليزية. في الحقيقة، تقول النيويورك تايمز، لقد قبض المستعمرون الإنكليز على سوكونتو ـ واسمه الحقيقي تيسكونتيوم ـ  في العام 1614، وسيق كعبدٍ إلى إسبانيا، ثم إلى إنجلترا، ثم أعيد إلى بلاده، ليجدها بعد خمس سنوات من الاستعباد، قد حملت اسم السادة، أصبحت نيو انكلاند. لم يلتقِ سوكونتو البطل عند عودته بأحد من أفراد قبيلته، التي تدعى باتوكست  patuxet، والتي هي فرع من قبيلة الوامبانوج، التي ستشارك في احتفال عيد الشكر الأول. ذلك لأن أفراد قبيلته جميعاً ماتوا خلال سنوات استعباده بداء الجدري. ما لم تذكره النيويورك تايمز، هو ما أوردته دراسة عن جامعة كالفورنيا، تحكي عن دور الاستعمار في نشر الأوبئة، (ومنها الجدري)، بين سكان أمريكا الأصليين لإبادتهم. لذلك عندما جاء المهاجرون في العام 1621، وجدوا الحقول ممهدة، لكنهم لم يجدوا بها أحداً من البشر، ففرحوا بها، واستوطنوها.

تشترك الرئاسة الأمريكية منذ الثمانينيات في احتفالات عيد الشكر، بإصدار عفو عن ديكٍ واحدٍ، يطلق سراحه رئيس الدولة أمام عدسات التلفزيون، بينما يذبح الشعب الأمريكي في هذا اليوم، ما يزيد على 46 مليون ديك. مع أن مراجع النيويورك تايمز التاريخية، تؤكد أن مائدة عيد الشكر الأولى، كانت تحتوي على خمسة غزلان، أحضرها الضيوف (أصحاب الأرض) معهم، بالإضافة إلى محاصيل الذرة والقرع، التي كانت لدى المهاجرين، ولم يكن على المائدة أي ديك!. وفي حين انجلت الحقائق بشأن البشر، فإن موقف الديك من هذا الاحتفال، لايزال غامضاً. وحتى جنسيته، فهو يدعى في أمريكا تركي، وفي تركيا يسمونه هندي، وفي مصر يقولون إنه رومي، وفي بلاد المشرق العربي يوصف بالحبشي. ليس هناك حقيقة قاطعة، لكن هناك اعتقاد بأن التسميتين، تركي ورومي، ربما ترمزان إلى عدو تاريخي، الأمر الذي كان فيما مضى، يكلل عملية الذبح بنوع من الرمزية.

في الواقع، يُعتقد أن الديك من سكان أمريكا الأصليين، وأنه لم يكن معروفاً قبل أن يتم تصديره من هناك، إلى كل العالم. يُعتقد أيضاً، أنه كان على وشك أن يكتسب حصانةً، بسبب رغبة الرئيس فرانكلين، بأن يجعله رمزاً للولايات المتحدة، قبل أن ينقضَّ النسر الأمريكي – الذي يتجول في سماء الولايات بخيلاء، لا يمكن مقارنتها مع الخيلاء الكاريكاتورية للديك ذي البشرة المتهدلة – على اللقب.

حسب النيويورك تايمز، ليس صحيحاً أن أصل عيد الشكر مسيحي أوروبي، كما يُعتقد على نطاق واسع. وليس صحيحاً أيضاً، أنه يعود إلى احتفالات القبائل الأصلية بالحصاد، وأنهم كانوا أصحاب الدعوة، والمبادرين بإطعام الضيوف الغرباء، كما راج مؤخراً، في أوساط المدافعين عن حقوق السكان الأصليين. لا يوجد أي دليل مكتوب، أو شفهي، على أن أحد الطرفين، قد وجه الدعوة للآخر لمشاركته الطعام، هناك اعتقادٌ بأن زعيم قبيلة الوامبانوج wampanoug، التي كانت تسكن على الطرف الآخر من مستعمرة المهاجرين، قد التقى بجيرانه، في محاولة تعارف ديبلوماسية، انتهت إلى المائدة الشهيرة.

ما حدث لسكان أمريكا الأصليين، عقب مائدة الشكر الأولى، على يد الموجات المتلاحقة من المهاجرين، لم يكن أقل سوءً، مما لاقاه تيسكونتيوم وقبيلته، على يد المستعمرين، الذين اقتحموا الأرض الجديدة بسفنهم الحربية، وأوبئتهم القاتلة.

مع ذلك يبقى عيد الشكر جميلاً، لأنه لا يحمل قصة كبيرة قادمة من السماء، لا يحمل إلا ذكرى تلك اللحظة الإنسانية الخالصة. لحظة مرتبطة بالأرض، وما تمنحه من الطعام والفرح، وذكرى تلك المائدة التاريخية العابرة للثقافات، التي تناول فيها هؤلاء البشر معاً الطعام،  وصلوا ولعبوا، في غياب عقيدةٍ، أو لغةٍ، أو تاريخٍ مشترك، وبالطبع في غيابٍ مؤقتٍ جداً لعقد التفوق العرقي، والرغبة في هداية الأرواح الضالة والطمع.

 

حنان جاد. كاتبة من مصر

اقرأ أيضاً:

ربيع أمريكا

ذلك العقاب… هذه اللعنة

موسم الهجرة إلى الشمال

مؤسسة “نورس”: مساحات شراكة بين الفنانين من مختلف الجنسيات، والانطلاقة مع حفل “ليالي مشبّك”

عن الذاكرة والخذلان: القدس ـ دمشق