in ,

حلويات القاطرجي.. حلويات سورية اجتازت امتحان المكان والثقافات والأجيال بامتياز

حلويات القاطرجي “Patisserie de l’Arabie”

على مقربة من المحطة المركزية لمدينة فرانكفورت، وعلى مسافة من زحمة مهرجان البقاليات والمطاعم المتنوعة التي تحيط بحي المحطة، يعثر المرء على محل حلويات القاطرجي “Patisserie de l’Arabie” متخفياً في منطقة سكنية لم تثن زبائنه عن الوصول إليه، فتراهم يصطفون في المحل بانتظار دورهم، خصوصاً عصر يومي الخميس والجمعة، للحصول على الكنافة والهريسة والعثمانلية والوربات بالقشطة، الواردة ساخنة وطازجة تواً من المصنع. يقوم على خدمة طلباتهم شاب في مطلع الثلاثينات، طويل القامة، أشقر الشعر والذقن، أخضر العينين، يتكلم الألمانية تارة، ثم ما يلبث أن يتحول إلى لكنة حلبية أنيقة على الرغم من كونها “مكسّرة” قليلاً تشي بأن الناطق بها “أجنبي”. عباس القاطرجي الذي تخصص في علوم الطيران يتقاسم مع والده أسامة وأخويه الأصغرين حمزة وحسن إدارة هذا المشروع الناجح، حتى ليظن المراقب بأن مؤسسيه قد ورثوا صنعة “الحلواني” أباً عن جد.

إلّا أن عبّاس كشف لأبواب قصة البدايات قائلاً:

  • “البداية كانت منذ عشر سنوات، خطر لوالدي، كجميع السوريين في بلدان المغترب، أن يفتتح مطعماً سورياً. لطالما اشتغل والدي الذي قدم إلى ألمانيا في اوائل الثمانينات بالعمل الحر، ففتح مرة مشروع توريد مواد غذائية، ومرة أخرى محلاً للملابس. كان لي من العمر آنذاك حوالي 20 عاماً، وأنهيت للتو تخصصي في مجال الطيران. استشار والدي بعض المعارف السوريين من أهل الخبرة والاختصاص، فكانت أجوبتهم في مجملها تشير إلى صعوبات العمل في مجال الإطعام من حيث المنافسة والتراخيص وضخامة حجم الاستثمار فيما يتعلق بالوقت ورأس المال، وعدم انتظام المردود، ناهيك عن الخسائر في المواد وصعوبة السيطرة على التكاليف المتغيرة. في نهاية الحديث، قال له أحدهم: “لم لا تشتغل “بالحلو العربي”؟ ما من أحد يشتغل بهذه الحرفة هنا، عليك باستقدام “معلم حلو” من سوريا، وسيعد لك الأصناف التي تُطلب”. ظننت في البداية أن أبي لم يعر أذناً صاغية لتلك النصيحة، خاصةً وأنه لم يعد لذكرها، ولكنها ظلت تدور في رأسي حتى اكتشفت بعد أسبوعين أنها كانت تدور في رأسه هو أيضاً عندما أسرّ لي أنه لا يريد استقدام “معلم” من سوريا، فهو عاجلاً أم آجلاً، “سيهجرنا ويعمل لحسابه الخاص”.

تذكر والدي أن لديه ابن عم مقيم في عمان منذ أوائل الثمانينات ويعمل في مجال تصنيع الحلويات العربية. انبريت أنا للمهمة، وأرسلني لأعمل متدرباً لديه بغية تعلم سر الصنعة وحمله معي لدى عودتي إلى ألمانيا. وهناك بدأت كأي “صبي حلواني” في جلي “ًصدور الحلو” والتنظيف. ثم تدرجت في التعلم سريعاً وبشكل مكثف على مدار الساعة حتى أتقنت الحرفة خلال ستة أشهر، بما فيها صناعة رقائق العجين وصب عجينة الكنافة. ثم توّجت رحلة التعلم تلك وختمتها بالعمل في حلب لمدة شهر، تعرفت خلاله على جميع أنواع الحلو العربي وما تشتهر به تلك المدينة، مع أسماء جميع الحلويات الخاصة بكل نوع. لدى عودتي، قمت بدوري بتدريب والدي وإخوتي. وفي هذا المحل الصغير، بدأت رحلة التصنيع والبيع. استلزمنا الأمر سنوات ثلاث من الاختبارات والتجارب لكي نصل إلى أفضل النتائج والمواد والموردين، حينئذً فقط، استطعنا أن نقول بكل فخر أن منتجنا يضاهي ما يجده المرء في دمشق وحلب، لا بل يتفوق عليه في الكثير من الأحيان.


اليوم، يعمل أخواي في معملنا في Kelsterbach بالقرب من مطار فرانكفورت، يساعدهما موظفان من العراق ودمشق، وأنا أعمل في البيع في المحل. نخطط جدياً للتوسع عن طريق افتتاح أفرع في مراكز التسوق في المدينة وفي مدن أخرى، فرعنا الثاني سيكون في مركز Skyline Plaza للتسوق في فرانكفورت اعتباراً من شهر 11 القادم. وبالرغم من الطلب المتزايد على منتجاتنا، إلا أن الخطة ستسير ببطء وثبات حتى نستطيع تأمين النوعية الحالية بكميات أكبر، فالنوعية تبقى رهاننا الأول.”

 

  • تحترف اليوم حرفة لا يعمل بها سواك من أبناء جيلك من الألمان، وحتى في سوريا، فإن قلة قليلة من الشباب تقدم اليوم على الخوض في غمار حرفة تصنيع الحلويات العربية. حبذا لو تحدثنا عن الدوافع التي حدتك لاتخاذ قرارك هذا، وأنت المولود في ألمانيا لأب سوري وأم ألمانية، بعيداً عن حلب وحلوياتها.

 

  • “علاقتي بالحلو العربي بدأت منذ كنت طفلاً، كنت أترقب بشوق قدوم الزائرين من الأقارب من حلب، إذ –وكما جرت العادة- لا يأتون إلا وهم محملين بهدايا نفيسة من الحلو العربي. علب الحلو تلك، كانت كل ما يربطني بالقصص التي كان يرويها والدي عن ذكرياته في حلب وتجسيداً لها. كنت أحب المبرومة والآسية التي تدعى في حلب لسان العصفور أو بقلاوة. والدي الذي يحب الأصناف نفسها كان يجهد نفسه عبثاً في إخفاء علب الحلو تلك كي لا تقع في متناول أيدينا أنا وإخوتي، ولكننا كنا دائماً ما نجد إليها سبيلاً، ويخيب أمله عندما يجد ما خبأه وقد تبخر.

ما زلت إلى اليوم أحب هذين الصنفين بوجه خاص، ولا يمر يوم دون أن أتناول قطعة منهما. أما عن قراري باحتراف صناعة الحلو العربي، فلطالما أردت في طفولتي أن أكون خبازاً. درست علوم الطيران وعملت لدى شركة مصر للطيران التي عرضت راتباً مغرياً مقابل تثبيتي كموظف لديهم، إلا أنني فضلت أن أخوض غمار تلك المغامرة، قائلاً لنفسي أنني لن أخسر شيئاً، وكان أفضل قرار اتخذته.”

  • وكيف كانت رحلة تعلم اللغة العربية التي تتقنها أيضاً قراءة وكتابة؟

 

  • “أرسلني والدي عندما كان لي من العمر خمسة أعوام إلى بيت جدي في السعودية، وهناك أدخلت في حضانة. وعند عودتي إلى ألمانيا للالتحاق بالمدرسة الابتدائية، كنت قد نسيت اللغة الألمانية، مما أثار ذعر والديّ اللذين بدأا حملة مكثفة لتلقيني الألمانية، فنسيت العربية تماماً.  فيما بعد، عندما التحقت بشركة مصر للطيران، تبين لي أن العربية كانت كامنة في ركن خلفيّ من الذاكرة وعدت للتحدث بها، ثم صقلتها أشهر التدريب والعمل المكثفة في عمان وحلب، وبعض الدروس على يد أستاذ خاص، وعملي هنا في المحل.”

يقاطع حديثنا بعضُ الزبائن الذين دخلوا ليشتروا الحلويات، زبائن ألمان، وعرب من مختلف الجنسيات العربية، يأتون باحثين عن نكهة الفستق الحلبي ولونه الأخضر البهيج يزين طبقات رقائق العجين، أو عن حرارة صدر الكنافة الكبير الذي يجرحه عباس “بمشحاف الحلواني” فتتفتق الجروح عن جبنٍ أبيض ذائبٍ وسمنٍ وقطرٍ كالعسل. يسمع خليط من اللغات واللهجات المختلفة، ويطل بعض المارة برؤوسهم كي يطلعوا بفضول على ما يجري في الداخل.

تضيء عينا عباس وتتسعان شغفاً وهو يشرح لزبون عن محتوى ومكونات واسم قطعة الحلو هذه أو تلك، فيستحق بجدارة صفة سفيرٍ للثقافة والمطبخ السوري.

  • كيف يعرف كل هؤلاء العرب والألمان عن حلوياتكم؟ وماهي نسبة الزبائن الألمان إلى العرب؟

 

  • “هناك العديد من وسائل الإعلام الألمانية التي اهتمت بعمل تغطية تلفزيونية وصحفية عن حلوياتنا، كما أن هناك شبكات التواصل الاجتماعي وموقعنا الذي يستطيع الزائر عن طريقه أن يطلب حلوياتنا فتصله في جميع أنحاء ألمانيا وبعض دول أوروبا. إلا أن الاعتماد الأكبر هو على حديث الناس وتوصياتهم بعضهم لبعض. أقدر نسبة الزبائن الألمان بـ 60%، وقد تفاجئك النسبة، إلا أن الألمان يعشقون حلوياتنا، خاصة لأن سكرها جاف وقليل وسمنها حيواني من الصنف الممتاز وعجينتها مقرمشة وغير غارقة بالقطر كغيرها من الأنواع التي شاع بيعها في الأسواق الألمانية.”

 

  • أخيراً، من خلال احتكاككَ بالقادمين الجدد من الشباب السوري ممن هم في مثل سنك، ما هي برأيك أهم الصعوبات التي يواجهونها، خاصة على صعيد تأسيس وممارسة عمل حر؟ ما هي النصائح التي توجهها لهم عندما يأتون إليك طلباً للنصح والمشورة؟

 

  • “الصعوبات التي يواجهونها ما تزال هي نفسها الصعوبات التي عانى منها والدي عندما بدأ بتأسيس عمله الخاص منذ 35 سنة، وتنحصر في مجملها بالتراخيص والتعقيدات البيروقراطية الخاصة بألمانيا، علاوة على النظام الضريبي المعقد الذي يواجه الجميع صعوبات في التعامل معه. فتعدد أنواع الضرائب المفروضة على العمل التجاري الحر واختلاف طريقة احتسابها ومواعيد استيفائها، تشكل عقبة حقيقية بالنسبة للمستثمر غير الألماني الذي يلجأ لحلها إلى حلول مكلفة، كالاعتماد التام على المستشار الضريبي. وقد يكلف التقصير في أداء أحدها -بغض النظر عن حسن أو سوء النية- مبالغ طائلة من الغرامات قد تودي بالمستثمر إلى الإفلاس.

ساعدنا كوننا أنا وإخوتي جزءاً من هذه المنظومة كثيراً في فهمها والاستجابة لتحدياتها، بالمقارنة مع والدي الذي عانى طويلاً من تعقيدات البيروقراطية قبل أن نبدأ مشروعنا العائلي هذا.

أما الصعوبة الثانية، فأراها تكمن في إتقان اللغة، وهو أمر على قدر جيد من التفاوت بين السوريين الوافدين حديثاً، ولكنني متفائل بما أراه من حولي وأظن أن الشباب يبذلون جهداً لا بأس به في تعلم اللغة وبعضهم أتقنها بوقت قياسي.

اقرأ أيضاً:

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء الأول

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء الثاني

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء الثالث

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء الرابع

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجرَّبة – الجزء الخامس

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجرّبة – الجزء السادس (الطحين)

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجرَّبة-7- القهوة

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجرَّبة الجزء الثامن (الخبز)

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء التاسع (الشاي)

دليل المواد الغذائية الأساسية في ألمانيا ونصائح مجَّربة – الجزء العاشر: الفورست الألماني

بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني: أوروبا وترامب، إلى أين؟

هل نال التعب من “الماكينات الألمانية” ؟