in

مخيم بحجم وطن

مخيم اليرموك

ميس الشيخ علي

في حي المزة الدمشقي، قضيت آخر سنتين لي داخل سوريا بعد النزوح المتكرر من مخيم اليرموك، وبالرغم من أنه مختلفٌ تمامًا عن المخيم وأجوائه وحياته؛ إلاّ أنّه كان أفضل خيار متاح لأسباب أمنية بطبيعة الحال.

كنت أقطع اُتوستراد المزة الطويل والعريض نسبيًا من كلية الآداب إلى وزارة الاتصالات حين تضيق الدنيا بي؛ وأسأل نفسي لماذا يبدو قصيرًا هكذا؟ محدودًا ومعروفا مُكررًا لا جديد فيه؟ أليس بإمكان الإنسان الضياع في مثل هذه الشوارع ؟ حتى هذه النعمة كُنت أفتقدها خارج المخيم الذي كنت أستمتع بحاراته الأشبه بالمتاهة.

كانت خريطة العالم يومها بالنسبة لي خطين مُتوازيين أحدهما شارع فلسطين والأخر شارع اليرموك وكل حارة من أحدهما تؤدي حتمًا إلى الآخر.

لطالما أعجبتني هذه اللعبة أنا المغرمة بالمغامرة وكل ماهو جديد؛ كُنت أقرر الدخول في إحدى الحارات ورسم مسار معين على غير هدى مُتنبّئة بالحارة التي سأنتهي بها في الطرف المقابل؛ لم أكن أخشى الضياع رغم صغر سني، كانت كل الحارات حتمًا تؤدي إلى الطاحونة “بيت جدَتي” وحارتنا.

كنا نقطع الطريق برًا من السعودية إلى سوريا وأنا أحلم “بـهُناك”، اثنا عشر عامًا من التنقل بين البلدين، لكنني لا أحتفظ بالكثير عن التسعة أشهر السنوية في السعودية مقارنة بذكريات محفورة في الذاكرة لكل ثلاثة أشهر غنية كنت أقضيها في حارات المخيم؛ أتنفس الحياة وألعب حتى الليل، أقرأ قصص المكتبة الخضراء، ومجلة ماجد بصحبة صديقتي على “المصطبة” وأتشاجر مع الصبيان وأنتشي بمتعة الاكتشاف، عندما تدرك أَنّ عالمك موجود وثابت يحوي كل ما تحتاجه من أمان وهو بانتظارك دائمًا؛ لا تخشى عندها لا الضياع ولا البُعد.

كنت وأخوتي ننتظر هذه الأشهر بفارغ الصبر، ننتشي فرحًا حين يعلن أبي موعد السفر في فصل الصيف ونبكي حزنًا وغضبًا حين يأتي موعد المغادرة، ونقوم بالكثير من محاولات الهرب التي تنتهي بأن ننام مهدودين من التعب عند الانطلاق؛ ونستيقظ لنجد أنفسنا خارج حدود سوريا، فنعاقب أَبوينا بالصّمت والحزن طوال الرّحلة حتى يبدأ أبي بقطع الوعود أن يبقينا السّنة القادمة فترةً أطول.

تستغل أُمي الفرصة لتَذكيره أنَّ الوقت قد حان للاستقرار هناك إلى الأبد بجانب أهلها وأن “الغربة كربة” “شوف الولاد كيف مو مرتاحين رغم كُل الدلال؟ شوفيها هديك البلاد غير النّفط والذّهب؟”

كـفلسطينيين اعتدنا الشتات وقطع المسافات الطويلة والانتظار على حدود البلدان وفي مطاراتها، اعتدنا أن نعبر المدن، نسكنها وتسكننا، وحين تُبادلنا الحب حتى تنمو شتلاتنا وتعرش أوراقنا فيها؛ تُقلع جذورنا منها بتهمة جاهزة كما كلّ مرة ونُرمى بعيدًا حيث لا تطال فروعنا شجرتنا الأم.

الآن في هذا الشتات الثالث، المهجر الأوروبي الجَديد، رُغم أنّ كل الأمكنة حديثة وواسعة وخالية أيضًا، إلّا أنّني أفتقد أيضًا متعة التوهان.. للأمان وحتى للفكرة عن الثبات.

حين  أدخل شارعًا لا أعرفه ولا يعرفني يأتيني صوت فتاة “جهاز تحديد الموقع العالمي GPS” الناطق لتنبهني فورًا أنّي أَخطأت وعليّ تغيير اتجاه الطريق. أحيانًا أَتمنى لو أستطيع إخبارها أنّ الطرق هُنا سواسية رمادية متشابهة؛ يمنةً كان اتجاهها أم يسرةً فلماذا تُصر على تذكيري؟ أحيانًا أسمعها بصَوتي الدّاخلي تقول الطّريق من هُنا عليك فقط المتابعة والتّركيز.. لا أكثر.

وأودّ لو أصرخ عندها إذا كانت الطّاحونة قد ذهبت إلى غير رجعة.. فما الذي يعنيني حقًا أي طريق أسلك بعدها؟

الرحيل الدائم

Ausländer آوسلاندر